الجمعة، 3 أغسطس 2012

مكر المجرمين، خطورة المكر وشناعة عواقبه

الْحَمْدُ للِّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ الله ورسوله فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا، وَلاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ.

صلى الله على عبده ورسوله وسلَّمَ تسليماً كثيراً، وعلى صحابته وآله والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِى النَّار.

أيها الناس: اعلموا أن أعداءكم يمكرون بكم وبدينكم ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:46].

عباد الله: مكر المجرمين معناه كل شيء يقصد به ضر المسلم في هيئة أو صورة تخفى عليه، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، أو إخفاء الأضرار، أو إبرازها في صورة المسالمة، أو إظهار الطيب وإبطان الخبث.

أيها المؤمنون: المكر السيئ صفة أعداء الله في كل مكان وزمان، وطريقتهم الثابتة في التعامل مع الإسلام وأهله؛ وقد بين الله لنا في كتابه العظيم المبين، أن أعداءه قد قابلوا رسله بالمكر، واتخذوا المكر وسيلة لمحاربة الحق الذي نزلت به كتب الله، وأرسلت به رسله.

وهذه بعض الأمثلة التي تبين مكر المجرمين السابقين بالحق ورسله:

أولا: ذكر الله بعض مكر قوم نوح، بقوله تعالى: ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ) [نوح:22-23].

ثانيا: وهذا بعض مكر قوم صالح، فقد قص الله علينا محاولة اغتيال رسول الله صالحا من قِبل تسعة من أكابر ثمود الآثمة وذلك في قوله تعالى: ( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [النمل: 48-52].

ثالثا: بيَّن الله لنا بعض مكر اليهود بعيسى -عليه السلام- بقوله: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [ آل عمران:54].

رابعا: قد تعرض رسولنا لأنواع المكر بجميع أشكاله وكل صوره، فكان في مكة يتعرض لمكر الكفار ليلا ونهارا، كما صور الله لنا بشاعة المكر برسولنا في قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الانفال:30]، أي: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيسجنوك أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يطردوك. وقد ربط الله على قلب رسوله، وسلاه في مصيبته، وتكفل بحفظه، ووعده بنصره، وذلك كله في قوله تعالى: (وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).

ثم انتقل إلى المدينة فاشتد عليه المكرُ، وأصابه من مكر أعداء الله مكرٌ لو أصاب الجبالَ لزالت؛ فمكرٌ من داخل الصف الإسلامي يتزعمه أهل النفاق أهل الغدر والخيانة والشقاق، ومكرٌ من الجيران اليهود نقَضَة العهود وخونة الوعود، وليس غريبا ذلك على إخوة الخنازير والقرود؛ ومكر خارجي تتزعمه الوثنية في مكة.

فقد آذاه المكر الذي اجتمع عليه من المنافقين واليهود والوثنيين في دينه وصحابته، وسُمَّ في صحته، وجُرح في جسده، وجرحه المنافقون في عرضه جرحا لا يزال إلى هذه الساعة؛ ومع ذلك كله كان الرسول ثابتا مجاهدا في سبيل الله بالسنان والبيان، محتسبا صابرا كما أمره الله بقوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل:127].

أيها الناس: إن أعداء الله يجتهدون في ضر المسلمين بكل ما يستطيعون؛ ولا يستطيعون -في الغالب- إيصال الضرر للمسلمين إلا بالمكر، كما مكر أسلافهم برسل الله.

ومن أمثلة مكر الكافرين بالمسلمين:

أولا: صد المسلمين عن دينهم، الدين الذي هو مصدر قوة المسلمين، وسبب عزتهم، وأساس غلبتهم لأعداء الله، وسر تميزهم الذي أهلهم للسيادة والقيادة.

ثانيا: تفريق المسلمين ونشر الخلافات بينهم وإضعاف قوة الصف، وتفريق الكلمة، وإيجاد الفجوة بين الحكام والشعوب، أوإفساد الحكام ثم استغلال ذلك كله لضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإهلاك أنفسهم بأيديهم، والعدو هو وحده المستفيد الأول والأخير.

ثالثا: زرع بذرة الشر والفتنة والبدع في أرض المسلمين من خلال إنشاء البدع والمذاهب المنحرفة، والأفكار الهدامة، وأهل الأهواء؛ لاستخدامهم ضد المسلمين جنودا معتدية آثمة، وأقلاما مسمومة، وجواسيس غادرة، ودعاة فجرة.

فها هي تلك الخناجر المسمومة التي كان لسانها يعلن عداوته للشيطان الأصغر قبل الأكبر كل جمعة، وعبر كل إذاعة، ثم يطعن بها أعداءُ الشيطانِ أهلَ الإسلام كل ساعة، ويعتذر للشيطان الأصغر من كلام الباعة، الذي صدر للنشر والإشاعة، ودعما لترويج البضاعة، وتلبيسا على سُذَّجِ أهل السنة والجماعة!.

رابعا: ومن مكر المفسدين إشغال المسلمين عما ينفعهم بأمور أقل ما يقال فيها أنها تضر ولا تنفع، مثل متابعة ومشاهدة القنوات الفاسدة، ومتابعة أخبار المغنين، وأهل الفن واللاعبين.

خامسا: نشر الفساد بين المسلمين ودعوتهم للوقوع فيه وإيجاد قدوات فاسدة للشباب والفتيات ونشر أسباب الفساد والفواحش بين الشباب قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10]. وقال تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) [سبأ:34].

فقد مكروا مكراً شديداً بالليلِ والنهار، بأساليب ووسائل خبيثة ماكرة تزينُ الفاحشة، وتصد عن الآخرةِ، ففشت الفواحشُ والمظالم، ونِيلَ من الأعراض، وأُكلت الأموال بغير حق، وظهرت صورُ صارخةِ من الحسد والبغضاء، والفرقةِ والخلاف، وعندها استُضعِفَ المسلمون، وتبجحَ وتسلطَ الملحدون والمجرمون.

سادسا: بث روح الانهزام في المسلمين، وإقناعهم بكل وسيلة بعجزهم وفشلهم، وإيقاظ الفتن وإشعال الحروب من قبل عملائهم؛ لإشغال المسلمين في أنفسهم، واستنزاف ثرواتهم وطاقاتهم، وضياع قدراتهم وجهودهم.

عباد الله: إن أعداء الله يمكرون مكراً عظيماً لا يمكن أن نتخيله ولا ندرك منه إلا القليل، قال الله تعالى في وصف مكر أعداء الدين لأهل الإسلام: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) [إبراهيم:46].أي: مكراً عظيماً تزلزل منه الجبال وتزول من أماكنها؛ لكن الله -جل وعلا- لهم بالمرصاد، وهو -جلّ وعلا- من ورائهم محيط.

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الرعد:33]، فقد زُيِّنَ لهم مكرهم القبيح الذي تفوح منه روائح الإجرام، والغطرسة والعتو، والانحلال والفساد؛ فالبغاة الطغاة الذين اعتزوا بقوتهم، واغتروا بما لديهم من كثرة عدد وعدة ووسائل، أعلنوا غطرستهم، وأظهروا هيمنتهم على المسلمين.

ولهم مكر خفي، وكيد عالمي، يمكرون به ويكيدون للإسلام وأهله، وكثيراً ما يروج هذا الكيد، ويمر هذا المكر بغفلة وسذاجة من كثير من أهل الإسلام، بل ربما تروج الحِيَل حتى يتبناها من بني جلدتنا والناطقين بألسنتنا مَن يروِّجون لها، ومن يرون فيها حقاً وصواباً، بل من يندفعون إليها متحمسين غير مدركين لتلك الألاعيب والحيل التي تسيّرها وتروّجها آلة إعلامية ضخمة، تغير الحقائق، وتجعل البريء الذي ليس متهماً مدانا مجرماً، وتجعل الباطل وتصوره على أنه هو الحق الناصع، والعدل التام!.

وهذا المكر والكيد يحيط بنا من سائر الجوانب، وفي كل مجتمعات المسلمين، وفي سائر ديارهم، وفي جميع مجالات حياتهم، إنه مكر عظيم كبير، إنه كيد خطير، فهل يُرعبنا ذلك -معاشر المؤمنين-؟ وهل يفتّ في عضدنا -معاشرَ المسلمين-؟ وهل يجعلنا في حيرة من أمرنا، وفي شك من ديننا؟ وهل يدفعنا إلى أن نلتمس الخلاص منه في شرق أو غرب، أو استعانة بهذا أو ذاك؟ أو لين وذلّ لا يتفق مع الإسلام؛ لأجل مداراة أو مداهنة؟. (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) [النحل: 26]. أقول ما قلت وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.





الخطبة الثانية:




الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى؛ والصلاة والسلام على خير رسل الله، وعلى آله وصحابته.

أما بعد: لا يخفى على أحد تعرض ديننا وبلادنا لأنواع المكر، صغيرها وكبيرها، قريبها وبعيدها.

إن الواجب علينا في مجابهة مكر الماكرين بنا أمور، من أهمها:

أولا: معرفة طريقة الرسل في التعامل مع مكر المفسدين المعتدين، وخاصة سنة رسولنا وسيرته في التعامل مع مكر المنافقين واليهود والمشركين وغيرهم.

ثانيا: إعداد العدة وبذل الجهد والطاقة في إيجاد القوة، ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60]، وهذا يشمل قوة العلم والإيمان والعمل الصالح، والقوة العسكرية، وتعلم وإتقان ما لدينا من أسلحة ومعدات، وقوة العقل والتفكير، وقوة البدن صحيا ورياضيا؛ لأن ذلك من مقومات المعركة الناجحة ضد العدو.

ثالثا: الحذر من المعاصي جنود إبليس قبل الحذر من جنود العدو، وتحرير قلوبنا من استحلال الشيطان؛ حتى نستطيع حماية ديننا وبلادنا من الأعداء، فالذي لا يستطيع أن يحمي قلبه الذي لا يتجاوز بضع (سنتيات) كيف يستطيع حماية حدود بلاد تتجاوز مئات الكيلوات؟.

إن الألفة بيننا وبين المعاصي، وتطبيع العلاقات مع الشيطان وعمله؛ يسبب لنا استمرارا وتعودا على معاصي الله، فإذا حصل ذلك وقعت الكارثة، وحل الخسران، كما قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99]، فالأمن من مكر الله كبيرة من كبائر الذنوب.

فالذي يداوم على المعاصي، ويستمر عليها، ويصر على فعلها ولم يتب، فهو خاسر من الخاسرين؛ لأنه قد أمن من مكر الله الذي عصاه بنعمه.

فلا سلامةَ، ولا نصر، ولا نجاة إلا بالخوف من الله... وعلامة الخوف من الله فعل الطاعات، والتوبة من المعاصي، واجتنابها؛ فالمعاصي هي سبب كل بلاء ومصيبة وشر في الدنيا والدين، كما قال تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]، وقال تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:79].

رابعا: حفظ نعم الله بالطاعة، فقد انعم الله علينا بنعم يجب استخدامها في طاعته، والبعد عن معاصيه؛ لقد أنعم الله علينا بنعم لم يُنعم بها جميعا على أحد من العالمين من حولنا، فهدانا لدينه، وانزل فينا كتابه، بِلُغتنا، وبعث فينا رسوله، وقد جمعنا الله بعد فرقة، وأمَّنَنَا بعد خوف، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة. فمالنا عن طاعته معرضون أو متهاونون؟ ولمعصيته فاعلون؟ منا المقلون، وأكثرنا المكثرون؟!.

فيجب علينا حفظ نعم الله بطاعته، والحذر من معصيته، (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) [يونس:21]، وقوله: (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) أي: يسعون بالباطل ليبطلوا به الحق. (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)، فمكر الله بمن عصاه سريع، وعقابه شديد وإن أمهل إلى حين.
فإذا شكرنا الله على نعمه قرَّتْ واستمرت وسرَّت، وإذا قابلنا نعم الله بمعاصيه فرت ولا نفعت بل ضرت، فاشكروا الله على نعمه، واستعينوا بها على ما ينفعكم، قال تعالى:(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]. فما بالُنا؟ قليلٌ منا الشاكرون! والشاكرون مقتصدون! بل أكثرنا في شكر الله زاهدون.

خامسا: إن مما يثبتنا ويقوي عزائمنا معرفة سنة الله في المكر والماكرين، وقد غاب عن هؤلاء المجرمين المستكبرين الماكرين بالمسلمين أن من سنن الله الثابتة التي لا تتبدل ولا تتحول مَكْرَه بمن مكر بدينه أو شيء من أحكام الدين وسنة الرسول، أو أوليائه الصالحين، فما هي سنة الله تعالى في الماكرين الأولين والتي ستُخزي وتهلك الموجودين واللاحقين من الماكرين المفسدين؟ إنها سنة تتصف بالصفات التالية:

الأول: سرعة مجيئها، وأنها تأتي بسرعة مفاجئة فإذا هم مبلسون، قال تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) [يونس:21].

الثاني: شدة عذابها وتدميرها، قال تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) [الأنعام:124]، وقال تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل: 50-52].

الثالث: تأتيهم من حيث لا يحتسبون، بل تأتيهم من حيث يأمنون، كما قال تعالى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ) [النحل: 26]، أي: إن الله اجتث مكرهم من أصله، واقتلعه من أساسه؛ فأبطل عملهم، وأسقط بنيان خططهم الخبيثة، وكيدهم الخاسر! قال تعالى: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [ الحشر:2].

رابعا: أن مكر المفسدين خاسر، كما بين الله ذلك في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10]. فهم خاسرون، مهما يمكرون ويفعلون.

خامسا: إن الماكر يمكر بنفسه، وعاقبة مكره عليه، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:42-43]، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123].

سادسا: من صفات سنة الله في المكر والماكرين أنها لا تتغير ولا تتحول، فهي سنة ربانية ثابتة في كل ماكر في كل زمان ومكان، كما في الآية السابقة.

وفي الختام: يجب على المسلمين أن يعلموا أن سنة الله في الماكرين لا بد لها من أسباب ومن أهم هذه الأسباب أن يعملوا المسلمون الأعمال التي تمنع وقوع مكر المجرمين أو تبطل وتزيل مكر المفسدين أو تخفف ضرر مكر الماكرين.
وكذلك سنن الله في نصر المؤمنين والتمكين لهم والدفاع عنهم وحفظهم وتأييدهم وإظهارهم على عدوهم لا تحصل للمؤمنين إلا بالأعمال المحقق والجالبة لوجود هذه السنن بفضل الله ورحمته وإحسانه، ولن تحصل هذه السنن للبطالين أو المقصرين في الأعمال الصالحة المناسبة لهذه السنن الربانية كما بينها الله لنا في كتابه وربط السنن بأسبابها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق