الخميس، 24 فبراير 2022

كيف ربى النبي أمة تقود الأمم ، ما أسس التربية النبوية

 

‌‌‌كيف أحيا الرسول أمة متخلفة مهانة بين الأمم متعمقة فيها الجاهلية راسخة فيها الوثنية سائدة فيها الخرافة إلى أمة تقود الأمم بالعلم والعدل والإصلاح ؟ إن هذا التساؤل يجعلنا نتلمس أُسُسَ تربية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ ويمكن أن نجمل التربية النبوية في ثَلَاث ‌أُسُسٍ

التربية على العقيدة وَالْعِبَادَة

فقد حرص النبي كل الحرص على صحة العقيدة وسلامتها وقوتها وعلى إتقان العبادة واستمرارها وتنوعها

فيجب على كل مسلم أَن يهتم أَولا بالعقيدة ويركز عَلَيْهَا لِأَنَّهَا الركيزة لما بعْدهَا وَلِأَن قُوَّة الْإِيمَان بِاللَّه تَسْتَلْزِم الانقياد لشرعه وتثمر الاستسلام لمنهجه والرضا بحكمه

ومن ثمرات العقيدة التربية على المراقبة لله وَحفظ أوامره ونواهيه وَذَلِكَ بِاتِّبَاع الْأَوَامِر وَأَدَاء الْفَرَائِض والمحافظة عَلَيْهَا وَاجْتنَاب النواهي والبعد عَنْهَا وَبِذَلِك يحفظه الله وَيكون مَعَه بالتسديد وَالْحِفْظ والعون ثمَّ التَّوْجِيه إِلَى قُوَّة الارتباط بِاللَّه واللجوء إِلَيْهِ والخضوع لَهُ والتذلل لَهُ بسؤاله وَحده والاستعانة بِهِ وَحده.

التربية الأخلاقية

لقد أعْطى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأخلاق منزلَة عالية تمثلت فِي توجيهاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا أعطَاهُ للأخلاق من أهمية، وَمَا بذله فِي سَبِيل ترسيخ الْأَخْلَاق، وغرسها فِي نفوس أَصْحَابه منهجاً رائعاً آتى ثماره وَكَانَ خير مَنْهَج فِي تَقْوِيم السلوك والدعوة لِلْخلقِ الْحسن. فقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يُوَجه أَصْحَابه إِلَى اتّباع الْخلق الْحسن كَانَ خير قدوة لَهُم فِي ذَلِك فقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قمة سامقة فِي الْأَخْلَاق السامية حَتَّى شهد لَهُ بذلك الْقُرْآن الْكَرِيم قَالَ تَعَالَى: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}  فقد أدب الله (نبيه بآداب حَسَنَة، وَجعل لَهُ برحمته هَذِه الْأَخْلَاق الْعَالِيَة ،   وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَسْتَقِي من الْقُرْآن أخلاقه، فَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا سُئلت عَن خلق رَسُول الله (فَقَالَت: (كَانَ خلقه الْقُرْآن)  

التربية بالقدوة

وَلَقَد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير قدوة لأَصْحَابه، وَكَذَا حَال الْأَنْبِيَاء جعلهم الله مِثَالا وأسوة لأممهم فَمَا كَانُوا ليأمروا بِمَا يخالفونه أوَ يَقُولُوا مَالا يَفْعَلُونَهُ.  وَقد جعل الله من الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة يحتذى وقدوة يُتَّبع لنيل ثَوَاب الْآخِرَة فقد تمثلت فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة والآداب المرعية، فَمَا من خير إِلَّا سبق إِلَيْهِ وَلَا خصْلَة حميدة إِلَّا نَالَ أوفر الْحَظ مِنْهَا. وَلِهَذَا أمرنا بالتأسي بِهِ {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر}   والقدوة لَهَا أعظم الْأَثر فِي النُّفُوس، وتأثيرها أعظم من تَأْثِير الْخطب والمقالات والكتابات وَهَذَا مِمَّا يُثبتهُ الْوَاقِع وتدركه الْعُقُول. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَمَثَّل حَقِيقَة الْإِسْلَام بَين أَصْحَابه فِي قدوة حَسَنَة يقرن الْفِكر بِالْعَمَلِ، ويربط النظرية بالتطبيق وَيقدم الْمعَانِي حقائق حَيَّة فيُهتدى بِعَمَلِهِ قبل قَوْله ، وبفعله قبل علمه وَيكون أَمَام أَصْحَابه تجسيداً حَيا لدعوته ومثلاً صَرِيحًا على مبادئه. وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر الصَّحَابَة بالاقتداء بِهِ فَيَقُول: (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) وَيَقُول: ((خُذُوا عني مناسككم)

وقد استخدم الرسول في بناء هذه الأسس النبوية

أساليب تربوية في تربيته لأَصْحَابه ، منها :

أسلوب التربية بالثواب وَالْعِقَاب

فمن أساليب التربية الَّتِي يتَّفق عَلَيْهَا عُلَمَاء التربية: التربية بالثواب وَالْعِقَاب وَهُوَ أَمر فطري، وجد عناية فِي التربية الإسلامية فها هِيَ آيَات الْقُرْآن لاتكاد تَخْلُو صفحة من وعد بالثواب للطائعين ووعيد بالعقاب للعاصين ،وَهَذَا الْمنْهَج القرآني لَهُ أبلغ الْأَثر فِي النُّفُوس وتربيتها وتهذيبها ، وَكم ترَبَّتْ نفوس الْمُؤمنِينَ وزكت بآيَات الْقُرْآن لما وعتها وفهمت حَقِيقَتهَا فصاروا يعْبدُونَ رَبهم ويدعونه رغباً ورهباً وأوجدت صور الْوَعيد فِي نُفُوسهم عبودية الْخَوْف وأحيت صور الْوَعْد فِي نُفُوسهم عبودية الرَّجَاء، وَالْخَوْف والرجاء كجناحي طَائِر وهما قطبان فِي الْعِبَادَة.

ومن الأساليب النبوية في التربية: التربية بِالْقُرْآنِ

لقد كَانَ كتاب الله عز وَجل لَهُ أعظم الْأَثر فِي تَهْذِيب نفوس الصَّحَابَة وتربيتهم كَيفَ لَا وَهُوَ كتاب الله المعجز الَّذِي تَأْخُذ فَصَاحَته بالألباب. وتؤثر مَعَانِيه فِي الْقُلُوب وَلَو نزل على الْجبَال الراسيات لصدّعها {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعاً من خشيَة الله} هُوَ الَّذِي لم تتمالك الْجِنّ إِذْ حَضَرُوهُ إِلَّا أَن {قَالُوا: أَنْصتُوا فَلَمَّا قضي وَلَو إِلَى قَومهمْ منذرين} ، وَقَالُوا أَيْضا {إِنَّا سمعنَا قرآناًعجباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ}  وَلَقَد شهد بتأثير الْقُرْآن وفصاحته وعلوه الْمُشْركُونَ الَّذين عاندوه وَكَفرُوا بِهِ فالوليد بن الْمُغيرَة عِنْدَمَا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِي (الْقُرْآن قَالَ: (وَالله إِن لقَوْله الَّذِي يَقُول حلاوة، وَإِن عَلَيْهِ لطلاوة وَإِن أَعْلَاهُ لمثمر، وَأَن أَسْفَله لمغدق وَإنَّهُ ليعلو وَمَا يعلى عَلَيْهِ، وَإنَّهُ ليحطم مَا تَحْتَهُ) .

هَذَا الْقُرْآن الْعَظِيم تلقّاه الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بشغف عَجِيب يتلونه ويتدبرونه ويعملون بِهِ وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يربيهم بِالْقُرْآنِ ويتمثل أمامهم بآداب الْقُرْآن فَكَانَ خلقه الْقُرْآن وهديه الْقُرْآن ثمَّ كَانَ يحدوهم فِي ذَلِك ماورد من الثَّوَاب لمن تَلا الْقُرْآن وتدبره وَعمل بِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ 

الخطبة الثانية

وَمن معالم التربية النَّبَوِيَّة غرس الْيَقِين بِالآخِرَة فِي النُّفُوس والتذكير بهَا وَجعلهَا هِيَ الهمّ والغاية الَّتِي يسْعَى إِلَيْهَا الْمُسلم. وَالْيَقِين بِالآخِرَة من أعظم أَسبَاب صَلَاح النُّفُوس واستقامتها وَهُوَ ركن أصيل فِي إِيمَان العَبْد الْمُسلم وصلاحه واستقامته وَلِهَذَا نجد أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعله من أهم صِفَات الْمُؤمنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {…وبالآخرة هم يوقنون}   ونجد الْقُرْآن الْكَرِيم لَا تَخْلُو صفحة من صفحاته من التَّذْكِير بِالآخِرَة وَمَا فِيهَا. وَلَقَد كَانَ مَنْهَج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربط النُّفُوس بِالآخِرَة وَبِمَا فِيهَا من النَّعيم الْمُقِيم وَمَا فِيهَا من الْجَزَاء وَالْعِقَاب الْأَلِيم.

وما هو أثر التربية النبوية!

التربية النبوية أخرجت خير أمة جعل الله لها القيادة والسيادة والريادة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ‌أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ 

نعم هؤلاء هم الذين تخرجوا من المدرسة الربانية النبوية ، إنهم أصحاب محمد الرسول النبي الأمي ﷺ ، وقد وصفهم الله بالصدق ،وبالوفاء بالعهد ،وإنهم صدقوا الله: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى ‌نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ 

ووصفهم الله بكثرة العبادة ودوامها وخاصة الصلاة فقال سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}

ووصفهم الله بقوة اليقين والثبات على الدين قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}

                                                         

الخميس، 10 فبراير 2022

طول الأمل وخطره وسببه واضراره

 

طول الأمل: الحرص على الدّنيا والانكباب عليها، والحبّ لها والإعراض عن الآخرة!

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا ‌طُولُ ‌الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ، وَارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ "

 

وعلامة العقل هي إنزال الدنيا منزلتها وترك الركون إليها مع اغتنام البقاء فيها للفوز بالعيش الدائم الآمن في الاخرة والنعيم المقيم.

وطول الآمال قطعت أعناق الرجال كالسراب أخلف من رجاه وخاب من رآه .

ومن اختار ‌قِصَرَ ‌الْأَمَلِ اختار الامنَ والسلامة ومن طال أملُه طال ألمه ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ 

ان طول الأمل جند من جنود إبليس يوقع في أُمَّهَاتِ الْخَطَايَا وهي: الْحَسَدُ وَالْحِرْصُ وَالْكِبْرُ.

فَأَمَّا الْكِبْرُ فَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ إِبْلِيسَ حِينَ تَكَبَّرَ وَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ، فَلُعِنَ.

وَأَمَّا الْحِرْصُ فَكَانَ أَصْلَهُ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قِيلَ لَهُ الْجَنَّةُ كُلُّهَا مُبَاحٌ لَكَ إِلَّا هَذِهِ الشَّجَرَةَ، فَحَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى الأَكْلِ مِنْهَا.

وَالْحَسَدُ أَصْلُهُ مِنْ قَابِيلَ ابْنِ آدَمَ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ، فَصَارَ مَأْوَاهُ النَّار.

فلا تكونوا من الذين غرهم طول الأمل فغفلوا عن قرب الأجل وفرطوا في صالح العمل

وَاعْلَموا أَن ‌طول ‌الأمل دَاء عضال وَمرض مزمن وَمَتى تمكن من الْقلب فسد مزاجه وَاشْتَدَّ علاجه!

وقد ذم الله الذين غرهم طول الأمل وتوعدهم بقوله ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ ‌الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ 

وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء إِن للْبَاقِي بالماضي مُعْتَبرا .. وَللْآخِر بِالْأولِ مزدجرا .. والسعيد لَا يغتر بالطمع وَلَا يركن إِلَى الخدع وَمن ذكر الْمنية نسي الأمنية وَمن أَطَالَ الأمل نسي الْعَمَل وغفل عَن الْأَجَل

يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ … وغرَّه طولُ الأمل

الموتُ يأتي بغتةً … ‌والقبرُ ‌صندوقُ العملْ

أهم اسباب  ‌طول ‌الأمل شيئان:

أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل

ومن أحب الدنيا قدمها على الآخرة وأضاع قلبه ووقته ،وهما أصل كل إِضَاعَة: إِضَاعَة الْقلب وإضاعة الْوَقْت فإضاعة الْقلب من إِيثَار الدُّنْيَا على الْآخِرَة وإضاعة الْوَقْت من ‌طول ‌الأمل فَاجْتمع الْفساد كُله فِي إتباع الْهوى وَطول الأمل وَالصَّلَاح كُله فى اتِّبَاع لهدى والاستعداد للقاء َالله.

الْهُدَى وَاضِحٌ فَلا تَعْدِلُوا عَنْهُ … وَلا تَسْلُكُوا سَبِيلَ الضَّلالِ)

(وَأَنِيبُوا قَبْلَ الْمَمَاتِ وَتُوبُوا … تَسْلَمُوا فِي غَدٍ مِنَ الأَهْوَالِ

ولا تكونوا من الذين {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}

 

وَقَالَ الْحُكَمَاءُ الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَمَلِ وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَمَلِ،

واعلموا أن ‌طول ‌الأمل أصل كل فتنة، ومنه أتى كل هلاك.

 ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ ‌الْآخِرَةُ ‌خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

اضرار طول الأمل:

وَيَتَوَلَّدُ مِنْ ‌طُولِ ‌الْأَمَلِ الْكَسَلُ عَنْ الطَّاعَةِ وَالتَّسْوِيفُ بِالتَّوْبَةِ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا ويحسنها ويحببها، وَنِسْيَانُ الْآخِرَةِ، وَيُقَوِّي الْهوى وَيكثر الشَّهَوَات، ويسهل الوقوع في المعاصي، ويورث سيء الأخلاق ، وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ رِقَّة القلب وَصَفَاءَهُ إنَّمَا يَقَعُ بِتَذَكُّرِ الْمَوْتِ وتقديم أمر الآخرة على الدنيا.

قال تعالى محذرا من مشابهة اليهود والمشركين الذين اهتموا بدنياهم وضيعوا اخرتهم {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ}

(عَنْ ‌مُجَاهِدٍ ، عَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنكبي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ،» وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ فَقَالَ لِيَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «‌اغْتَنِمْ ‌خَمْسًا ‌قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ »

 

إنا لنفرح بالأيام نقطعها … وكلُّ يوم مضى يُدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً … فإن الربح والخسران في العمل

‌وقال الاخر:

إِنَّا ‌لَنَفْرَحُ ‌بِالأَيَّامِ ‌نَقْطَعُهَا * وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى لِلْعُمْرِ نُقْصَانُ

وقيل:

‌وَمَا ‌الدُّنْيَا ‌بِبَاقِيَةٍ ‌لِحَيٍّ … وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاق

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ ‌فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ 

الخطبة الثانية

يا من غره طول الأمل تذكر قول الله تعالى ﴿‌كُلُّ ‌نَفْسٍ ‌ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ 

قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم « لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، ‌وَطُولِ ‌الْأَمَلِ ».

أخي الحبيب اصلح نفسك بالتقوى والاستعداد للرحيل من الدنيا ولقاء الله!

تَزَوَّدْ مِنَ التَّقوَى فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي * إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلى الفَجْرِ

فَكَمْ مِنْ طَبِيبٍ مَاتَ في زَهْرَةِ العُمْرِ * وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ عَاشَ حِينَاً مِنَ الدَّهْرِ

فَكَمْ مِنْ سَلِيمٍ مَاتَ مِن غَيرِ عِلَّةٍ * وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَاشَ حِينَاً مِنَ الدَّهْرِ

‌وَكَمْ ‌مِن ‌عَرُوسٍ ‌زَيَّنُوهَا ‌لِزَوْجِهَا * وَقَدْ قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ

فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكًا … وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري

وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم … وقد أُدخلت أجسادُهم ظلمة القبرِ

وكم من ساكن عند الصباح بقصره ××× وعند المسا قد كان من ساكن القبر

فكن مخلصًا واعمل الخير دائمًا ××× لعلك تحظى بالمثوبة والأجر

وداوم على تقوى الإله فإنها ××× أمان من الأهوال في موقف الحشر

 ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ‌نَسُوا ‌اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾