السبت، 28 ديسمبر 2019

أقوال أهل العلم في النهي عن مشاركة الكفار أعيادهم

 أقوال السلف، وأهل العلم في حكم الاحتفال بعيد رأس السنة ( الكريسماس ) أو #الكريسمس 



قال ابن حجر الهيتمي الشافعي :

من أقبح البدع موافقة المسلمين النصارى في أعيادهم، بالتشبه بأكلهم، وتهنئتهم، والهدية لهم، وقبول هديتهم فيه.

[ الفتاوى الفقهية الكبرى (4/238) ]

وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم .

[ ابن القيم - أحكام أهل الذمة (1/234) ]

 يقول عطاء بن أبي رباح -رحمه الله -:

اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم ؛
    *فإن السخطة تنزل عليهم*

[ الأدب؛ لابن أبي شيبة (1/23) ]


ومن فعل شيئاً من ذلك (أي الكريسمس) فهو آثم سواء فعله مجاملة أو تودداً أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب ؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسبـاب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بِدينهم .

 [ ابن عثيمين - مجموع الفتاوى (3/44) ]

 المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة؛ فإنه إذا أشبه الهدي الهدي، أشبه القلب القلب.

[ ابن القيم - إغاثةاللهفان (1/364) ]

ﻗﺎﻝ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ ابن العاص -ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-: 

ﻣﻦ مر ﺑﺒﻼ‌ﺩ ﺍﻷ‌ﻋﺎﺟﻢ ﻓﺼﻨﻊ ﻧﻴﺮﻭﺯﻫﻢ ﻭﻣﻬﺮﺟﺎﻧﻬﻢ، ﻭﺗﺸﺒﻪ ﺑﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻳﻤﻮﺕ ـ ﻭﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ـ حُشر ﻣﻌﻬﻢ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ.

 [ ابن القيم - ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺬمة (2/240) ]

قال الإمام الدَّمِيري الشافعي رحمه الله :


يُعزّر من وافق الكفار في أعيادهم.

[ النجم الوهاج في شرح المنهاج (9/244) ]
 

لا يجوز الاحتفال بعيد الكريسمس، ولا غيره من أعياد الكفار، ولا مشاركة أهله في احتفالهم، ولا تهنئتهم به.

[ ابن باز - مجموع الفتاوى (9/329)  ]

 قال البهوتي الحنبلي رحمه الله :

ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار لما في ذلك من تعظيمهم، فيشبه بداءتهم بالسلام، ويحرم كل ما فيه تخصيص؛ كعيدهم وتمييز لهم، وهو من التشبه بهم والتشبه بهم منهي عنه إجماعا، وتجب عقوبة فاعله.

[ كشف القناع عن متن الإقناع (3/131) ]

 إذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حلّ بهم فيه العذاب، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها.

[ ابن تيمية - الاقتضاء (1/267) ]

 مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم، بما هم عليه من ‎الباطل.*

[ ابن تيمية - الاقتضاء (1/546) ]. 

ﺍﻟﻤﺸﺎﺑﻬﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﺗﻮﺭﺙ ﻧﻮﻉ ﻣﻮﺩﺓ ﻭﻣﺤﺒﺔ، ﻭﻣﻮﺍﻻ‌ﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻃﻦ ﺗﻮﺭﺙ ﺍﻟﻤﺸﺎﺑﻬﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ، ﻭﻫﺬﺍ ﺃﻣﺮ ﻳﺸﻬﺪ ﺑﻪ ﺍﻟﺤﺲ ﻭﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ.

[ ابن تيمية - الاقتضاء (1/549) ]

ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺍﻟﻘﺎﺳﻢ ﺍﻟﻄﺒﺮﻱ ﺍﻟﻔﻘﻴﻪ ﺍﻟﺸَّﺎﻓﻌﻲ: 

ﻭﻻ‌ ﻳﺠﻮﺯ ﻟﻠﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﺤﻀﺮﻭﺍ ﺃﻋﻴﺎﺩﻫﻢ؛ ﻷ‌ﻧﻬﻢ ﻋﻠﻰ منكر وزور، ﻭﺇﺫﺍ ﺧﺎﻟﻂ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻤﻨﻜﺮ ﺑﻐﻴﺮ ﺍﻹ‌ﻧﻜﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻛﺎﻟﺮﺍﺿﻴﻦ ﺑﻪ، ﺍﻟﻤﺆﺛﺮﻳﻦ ﻟﻪ؛ ﻓﻨﺨﺸﻰ ﻣﻦ ﻧﺰﻭﻝ ﺳﺨﻂ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﺎﻋﺘﻬﻢ، ﻓﻴﻌﻢ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ، ﻧﻌﻮﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺳﺨﻄﻪ.

[ ابن القيم - ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺬﻣﺔ (3/239) ]

‏كان معاذ بن جبل يقول في النصارى:

 «لا ترحموهم، فلقد سَبُّوا الله مَسَبَّةً ما سَبَّه إياها أحدٌ من البشر».

الخميس، 26 ديسمبر 2019

أهمية الاعتبار (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (إن في ذلك لعبرة )


.الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، سبحانه وبحمده جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله؛ بعثه بالحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ .
أما بعد   الاعتبار :
عباد الله: لقد دعانا ربنا -تبارك وتعالى- في كثير من الآيات في كتابه الكريم إلى الاعتبار والنظر، والتأمل والتفكر، والاتعاظ والتدبر، والنظر في حقائق الأشياء، والتعرف على مدلولاتها، حتى نتعرف على الخالق -جل وعلا- من خلال تلك الآيات والعظات.
وهذا يبين اهمية الاعتبار فهو مدرسة من انفع وابلغ مدارس الحياة
وإذا تأملنا في آيات القرآن الواردة في الاعتبار؛ نجد أن الله قد حدثنا عن الاعتبار بمعان متعددة ودلالات متنوعة، فمرة يدعونا إلى الاعتبار بما نراه ونشاهده من حولنا، كما قال تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44]، ومرة يدعونا للاعتبار بنعمه التي انعم بها علينا فيقول: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) والاعتبار بالنعم قبل الانتفاع بها لأنه يمنع من بطر.

كما دعانا في آيات أخرى إلى الاعتبار بالمرويات التي تروى والقصص التي تنقل إلينا، فقال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
 ويقول -جل وعلا- بعدما ذكر قصة فرعون وختم القصة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [النازعات: 26]، وخاطب المسلمين بعد غزوة بني النضير بقوله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2] حتى يعتبروا بما حصل لليهود في تلك الغزوة عندما أصروا على الكفر والعناد ونقض العهود.

أيها المسلمون: إن القرآن العظيم مليء بالآيات التي تدعو إلى الاعتبار بما حصل للأمم السالفة، والاتعاظ بما وقع لهم عندما طغوا وكفروا واستمروا في العصيان، فدمرهم الله شر تدمير، وجعلهم أثراً بعد عين, فيدعونا ربنا الرحمن الرحيم -جل وعلا- إلى أن نتعظ بهم، ونجعلهم عبرة لنا، فإن السعيد من اعتبر بغيره، كما قال -سبحانه وتعالى-: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)
ويقول: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، وقال: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .

أيها الناس، اعلموا أن الله تعالى خلق للإنسان عقلاً يعقله عن المكروهات، ويطلقه في طلب المحبوبات، ويقرأ به عِبَر الزمان، وحوادث الأيام؛ ليفيد منها دروسًا نافعة في الحياة.

فمن كان أوفى عقلاً كان أكثر اعتباراً بما ينفعه في العاجل والآجل، فأسرع -بعد اتعاظه- إلى الاقتداء بصالح التجارب، والانزجار عن سيئها. فالاعتبار بالعِبَر، والاتعاظ بالغِيَر من نتائج العقول الكاملة، والألباب الصافية.
ولذلك فإن الله تعالى حينما يذكر في كتابه الكريم مواضع العبر والعظات كالقِصص القرآني يختم ذلك ببيان أن المستفيد من تلك الآيات البينات هم أولو الألباب الذين أناروها بالتفكر، فربحوا بذلك الاعتبار الذي يحجز العاصي عن عصيانه، ويدفع المبطئ عن إبطائه في طاعة ربه.
فمن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ....   و قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ ...........، وقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ ........... وقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ ............... وقوله: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ .
  قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه السعيد من اتعظ بغيره
وقال الشاعر:
اقرأ التاريخَ إذ فيه العبرْ ♦♦♦ ضلّ قوم ليس يدرون الخبرْ
.
أيها المسلمون، إن من موارد العبرة ومجالات الاعتبار : الواقعَ الذي يعيش فيه الإنسان، ففيه عبرة لمن أراد الاعتبار.
وذلك آت من النظر والتأمل في ماضي الإنسان، وسنوات عمره السالفة؛ فإنه كلما امتد به الزمان، وتعاقبت عليه أحداث الأيام، فإن كان عاقلاً فسيأخذ من زمانه الفائت دروسًا لزمانه القادم...
ولا حكيم إلا ذو تجربة، كما قيل.

وكما يأتيه الاعتبار من واقعه هو، يأتيه كذلك من واقع الآخرين وما جرى لهم من أحداث ومواقف.

عباد الله، إن السادرين في غيهم، الذين لم يعتبروا بالعِبر، ولم يتعظوا بالغِير، سيؤدبهم الزمان القريب أو البعيد لا محالة، فالمنافقون لم تؤدبهم المصائب والفضائح في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [التوبة:126]. واهل النار لم يدّكروا بما جرى لأسلافهم، ولكن يوم القيامة يحضرهم الاعتبار في غير مكانه وزمانه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك:10-11].

فطوبى لأهل الاعتبار الذين ظفروا بالربح والسلامة، وسلموا من الخسران والندامة، قال الله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ 

لقد غفلنا اليوم في عالم الماديات وعصر التكنولوجيا والمحسوسات عن الاعتبار بمن مضى، بل والاعتبار بما نرى ونشاهد، فكم نرى من آيات، وكم نشاهد من عبر ودلالات، ولكننا لا نعتبر ولا نستفيد، وكأن الله -سبحانه وتعالى- لم يدعُنا إلى الاتعاظ والاعتبار في كتابه العظيم.

لقد نسينا اليوم قصص الغابرين التي قصها الله علينا في كتابه العظيم، وغفلنا عن صور العذاب وألوان العقاب الذي أنزله على أولئك الأقوام حينما طغوا في البلاد, وأكثروا فيها الفساد.

 ان المسلم اليوم وفي هذا العصر في أمس الحاجة إلى التذكير بهذا الموضوع المهم موضوع الاعتبار والادكار، فإن الله -جل وعلا- ما كرر الآيات التي تدعو إلى الاعتبار والتذكر إلا من أجل أن يذكرنا بهذا الموضوع الهام، حتى لا ننساه أو نغفل عنه.

إننا نعيش اليوم في زمن طغت فيه الماديات، وانتشر فيه الشر بكل أشكاله وأنواعه، وتلونت فيه المعاصي وتعددت، وراجت واستفحلت، وألفها الناس حتى صارت جزءً لا يتجزأ من حياتهم وواقعهم.

ثم استحكمت الغفلة في النفوس ، وابتعدنا عن تدبر القرآن وسماع المواعظ التي تذكرنا بقصص الأمم التي سبقتنا ولم نعتبر بها، ولم نتأملها، أليس حرياً بنا أن ننظر في الآيات والعبر التي نراها في واقعنا، ونشاهدها كل يوم ؟.

ألسنا نرى الأخبار، ونسمع الأحوال، ونشاهد الأحداث التي تقع في الدنيا بالصوت والصورة؟ فلماذا لا نتعظ بها؟ ولا نعتبر بالأحداث الكونية العظام التي تحدث دائماً في هذا الكون الفسيح.

كل يوم نسمع عن إعصار، أو زلزال، أو دمار، أو فيضان، أو سيول عارمة،   أو رياح عاتية، أو أمراض غريبة، أو أوبئة مهلكة، ولكن أين من يعتبر بها؟ وأين من ينظر إليها بعين الاعتبار؟.

نذر وآيات، عقوبات وتخويفات ولكن من يعتبر؟ وأين من يتعظ؟ 
أليست هذه آيات ونذر يجب علينا أن نعتبر بها، ونتفكر فيها، ونتأمل في حال أهلها، ونتعظ بما حصل لهم، قبل أن يقع لنا ما وقع لهم؟ فإنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وأصلي وأسلم على من نطق بكمال الصدق، وأرشد إلى سُبل الحق، فأدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح الأمة وكشف الله به الغمة -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام-.

عباد الله: يموج العالم من حولنا موج البحر، وتحدث فيه من المتغيرات ما يحتاج منا إلى أن نتفكر فيه ونعتبر، فإنما هي تنبيهات ودلالات يحدثها الله للاتعاظ والاعتبار، (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59]، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر: 44].
أيها الناس: إن الاتعاظ وأخذ العبرة لا يقتصر على أخذها من الآيات الكونية فقط، وإنما أيضاً يجب أن نأخذ العبر من الآيات الشرعية، فالقرآن الكريم بقصصه، ومعجزاته، ودلالاته، وأحكامه، مليء بالعبر والمواعظ، وما أنزل الله القرآن إلا موعظة وذكرى للناس؛ ليعتبروا بما فيه، ويتعظوا بآياته، وإشاراته، ومعانيه، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].

فمن لم يعتبر بهذه الآيات، ولم تؤثر فيه تلك العبر ، فإن الله -جل وعلا- يرسل على من لم يعتبر ما هو أشد وأعظم، وكل آية تكون أشد وأكبر من سابقتها، حتى يصحو ويعتبر، فإن لم يصحو ويعتبر جاء الدمار الكامل والعذاب الشامل على من أعرض ولم يعتبر، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) .... ويقول: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).

فما أكثر الشواهد، وما أكثر العبر، وما أكثر المواعظ، ولكن تحتاج فقط منا إلى أن نعتبر، ونتأمل بعقولنا وتفكيرنا، وننظر ببصرنا وبصيرتنا، حتى تؤثر فينا هذه العبر، وتحرك الران الذي في قلوبنا، وتغير أحوالنا، وتصلح ما فسد فينا، فالسعيد من اعتبر بغيره، والشقي من كان عبرة لغيره، يقول عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: “المؤمن إِنْ سَكَتَ تَفَكَّر, وَإِنْ تَكَلَّمَ ذَكَرَ, وَإِذَا نَظَرَ اعْتَبَرَ, وَإِذَا اسْتَغْنَى شَكَرَ, وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ
اللهم اجعلنا من المعتبرين، واجعلنا هداة مهتدين، صالحين مصلحين 


الخميس، 14 نوفمبر 2019

مجاهدة النفس خطبة جمعة

الحمد لله ... أما بعد

مجاهدة النفس فريضة من فرائض الله على عبده (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)

اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ أَنَّ النَّفْسَ مُجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْهَوَى

وهوى النفس مضرر لها ضررا كبيرا وخطيرا فهي مفْتَقرَة إِلَى مُجَاهَدَةِ الهوى  ومُخَالَفَته وَمَتَى لَمْ تُزْجَرْ النفس عن اتباع الهوى هَجَمَ عَلَيْهَا الْفِكْرُ فِي طَلَبِ مَا شُغِفَتْ بِهِ فَاسْتَأْنَسَتْ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ وَالأَطْمَاعِ الْكَاذِبَةِ وَالأَمَانِي الْخادعة خُصُوصًا إِنْ سَاعَدَ الشَّبَابُ والصحة والفراغ فقد يبلغ الإنسان جنون الغفلة وهو لا يشعر.

 أخي رحمك الله : لا نجاة للنفس ولا سعادة لها ولا هداية الا بمجاهدتها، قال الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}

فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

إحْدَاهَا: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ.

الثّانِيَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا..

الثّالِثَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ..

الرّابِعَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لله..

فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَبد لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ.

والواجب على من يريد النجاة والفلاح مجاهدة النفس ومراقبتها ومحاسبتها على ما تُمْدَحُ به وما تُذَم وإلزامها دائماً بأحسن الأمور والأخلاق والبعد عن الأخلاق الذميمة وعن اسباب المعصية التي تدنس النفس والاجتهاد فيما ينفع عند الله.

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}

إن مما يزكي النفس تتبُّع صفات المؤمنين والصفات الحميدة التي دعا إليها القرآن الكريم والرسول ومحاولة التحلي بها، والحذر والبعد مما حذّرا منه من الأخلاق السيئة وأخلاق الكافرين والمنافقين والفاسقين والاحتراس منها والحذر كل الحذر من الوقوع فيها.

أخي وفقك الله : أنت في حاجة شديدة إلى المجاهدة النفس ، فإن النفس مَيَّالة إلى التفلت من القيود والتكاليف، والنفس تنساق وراء سعادة لحظية مُتَوهَّمة تسبب شقاء الأبد!.

ولا يصح لك أن تطلب معالي الأمور بأرخص الثمن!

ولا يصح أن يُطمِّعك في الشر والدناءة حصولهما بغير ثمن!

وإن من يريد عظيماً ومن يريد معالي الأمور لا بد له من أن يدفع ثمنها المناسب، وإلا لاستوى الناس جميعاً في فُرَصِ الوصول إلى المعالي!!.

حقاً ليست العبرة دائماً بمقدار الثمن ولكن بالنتيجة والمُثَمَّنِ، وقد اقتضت سنة الله تعالى في الحياة أن يَبْذل الإنسان لكل شيء ما يناسبه، فللدنيا سعي وللآخرة سعي!! وللفضائل سعيٌ وللرذائل سعيٌ!!.

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}.

 

ومن علامات الانتصار على النفس في معركة الجهاد معها أن تفعل ما يرضي الله ولو كرهته النفس وتجتنب ما يكرهه الله ولو رغبته النفس وأحبته ومالت إليه.

والصبر بأنواعه المختلفة مِن أهم عُدّة المجاهِد لنفسه، ومِن أهم ما يَحتاجه في هذا الباب الصبر عن الشهوة.

فمَن جاهَدَ نفسه لله، وأراد أن يَقوى صبره  فعليه بالنظر في عواقب الأمور كلها.

ومِن أهم ذلك النظر في عواقب الاستجابة للشهوة، أياً كانت هذه الشهوة، حلالاً أم حراماً؛ فإنّ لكلّ عَمَلٍ عاقِبَةً، ولكلِّ خطوةٍ نتيجةً، والنتيجة لك أو عليك!.

إنّ على الإنسان أن يكون موقفه مِن شهوته موقف المراقبة والمحاسبة، لا موقفَ الاسترسال معها والاستجابة لها، وأن يستحضر -قَبْل الاستجابة لشهواته عواقب اتباع الشهوات:

وليعلم العاقل إن الصبر عن الشهوة أسهلُ مِن الصبر على ما توجبه الشهوة من عواقب :

فإنها: إِمّا أَنْ توجب أَلَماً وعقوبةً.

وإِمّا أَنْ تقطع لذةً أكملَ منها كلذة القرب من الله .

وإِمّا أَنْ تُضيع وقتاً إضاعته حسرةٌ وندامةٌ.

وإِمّا أَنْ تَثْلمَ عِرضاً توفيره أنفع للعبدِ مِن ثَلْمه.

وإِمّا أَنْ تُذهِب مالاً بقاؤه خيرٌ له من ذهابه.

وإِمّا أَنْ تَضَعَ قَدْراً وجاهاً قيامه وبقاؤه خيرٌ مِن وضْعه.

وإِمّا أَنْ تَسْلب نعمةً بقاؤها ألذّ وأطيبُ مِن قضاء الشهوة.

وإِمّا أَنْ تُطَرِّقَ لِوَضيعٍ إليك طريقاً لم يَكُن يَجِدها قبلَ ذلك.

وإِمّا أَنْ تَجْلِبَ همّاً وغَمّاً وحُزْناً وخوفاً لا يُقارِبُ لذّة الشهوة.

وإِمّا أَنْ تُنْسيَ عِلْماً ذِكْرُهُ أَلَذّ مِن نَيلِ الشهوة.

وإِمّا أَنْ تُشْمِتَ عدوّاً وتُحزِنَ ولِيّاً.

وإِمّا أَنْ تَقطَعَ الطريق على نِعْمةٍ مُقْبلةٍ.

وإِمّا أَنْ تُحْدِثَ عَيباً يَبقى صفةً لا تَزول؛ فإنّ الأعمال تورث الصفات والأخلاق"!!.

فمن الشجاعة المحمودة مجاهدة الإنسان نفسه ومجاهدة النفس تكون بتعلم وعمل ما ينفع  وبقمع الشهوة وتهذيب النفس وتطهيرها وتزكيتها

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»،

 الخطبة الثانية

الحمد لله .... أما بعد

من لم يجاهد نفسه فسوف يقع في ظلم نفسه قال الله  {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ }

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }

ومن جاهد نفسه نفعها بالهدى ومنعها من الضلال واتباع الهوى قال الله  {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}

ومن لم جاهد نفسه فلن يكن من الشاكرين قال الله  {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}

وعلى قدر مجاهدة النفس تحصل التزكية وتتحقق قال الله  {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ}

 ومن صدق في جهاده لنفسه نال الفقه في الدين وابصرت نفسه ما ينفعها وكان على بصيرة من دينه  قال الله { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا }

من ضعف في جهاده لنفسه فقد حرم نفسه الصالحات وأساء لنفسه قال الله  {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}

ومن السفه والحمق أن يتهاون الإنسان في مجاهدة نفسه على اتباع منهج المرسلين  قال سبحانه {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}

كل إنسان مع نفسه بائع ومشتري فمن شرى نفسه من عذاب الله برضوان الله فقد فاز ومن باع نفسه بثمن بخس من معصية الله فقد خاب وخسر  قال الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}

من لم يصبر على مجاهدة نفسه ويستمر على الإستقامة فقد ضر نفسه بالذنوب والأثام قال تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}

ومن لم يطهر نفسه بالصدقة فقد دنسها بالبخل والشح قال تعالى {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

فمجاهدة النفس فرض وواجب وإيمان وإحسان وطاعة وشكر وصبر وتقوى وجهاد ورباط  قال الله  {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، اللَّهُمَّ ادخلنا فِي حِزبكَ الْمُفِلِحِين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ، وَآمِّنَّا يومَ الفَزَعَ الأَكْبر يومَ الدِّين، وَاحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيين وَالصِّدقِينَ والشُّهْداء والصالحِينِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ 

السبت، 2 نوفمبر 2019

معنى قول الله وثيابك فطهر خطبة جمعة


الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين

ماذا قال أهل الشأن والاختصاص من العلماء في تفسير قول الله وَثِياَبَكَ فَطَهِّرْ}
قيل خلقك فحسن  ونزه نفسك وطهرها من المعايب والنقائص والمساوي.
وقيل كسبك ومالك ومأكلك ومشربك فطهره من الحرام
وقيل : نساءك طهرهن" وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس. قال تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]
وقيل بيتك فطهر من المعاصي قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا
وقيل عَمَلَكَ فَأَخْلِصْهُ. وقيل بدنك وملبسك فطهر
وأكثر المفسرين على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق التي هي علامة على صلاح القلب وطهارته .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.
والغفلة عن طهارة القلب أصل كل فساد وهي من العقوبات التي يصاب بها الإنسان في دينه..  قال الله تعالى
{أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] قال ذلك بعد قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لقوم آخرين لم يأتوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] .
مما يدل على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلاف الباطل الذي اعتاده رده وكذبه إن قدر على ذلك، وإلا حرفه.
فهذه علامة الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى ورسوله، فلو  طهرت قلوبهم لما تعوّضوا بالسماع الشيطانى عن السماع القرآنى الإيمانى. قال عثمان بن عفان رضى الله عنه: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله".
فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائق القرآن ، ولا يتداوى إلا بأدوية القرآن ، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح.
ودلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلا بد أن يناله الخزى فى الدنيا والعذاب فى الآخرة، بحسب نجاسة قلبه وخبثه. قال تعالى: {أُولئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] .ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من فى قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره. فإنها دار الطيبين. ولهذا يقال لهم:
{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] .
أى ادخلوها بسبب طيبكم. والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم، كما قال تعالى:
{الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] .
فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شىء من الخبث. فمن تطهر فى الدنيا ولقى الله طاهراً من نجاساته القلبية دخلها بغير معوق، ومن لم يتطهر فى الدنيا فإن كانت نجاسته عينية، كالكافر، لم يدخلها بحال. وإن كانت نجاسته عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم، قصرت بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة.
والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر. وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة القلبية ، فلا يدخلها إلا طيب طاهر القلب. فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب. ولهذا شرع للمتوضئ أن يقول عقيب وضوئه:
"أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِينَ".
فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء. فلما اجتمع له الطهران صلح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته....
ولا يمكن أن يطهر القلب إلا إذا اهتم الإنسان بحراسة منافذ القلب وحفظ هذه المنافذ حتى تبقى هذه المنافذ طاهرة وبهذا يسلم القلب من الدنس
ولسائل أن يقول: ما هي المنافذ التي يدخل منها الدنس والفساد إلى القلب؟
فهذه المنافذ هي
منفذ البصر والنظر الى الحرام سهم مسموم من سهام ابليس يفتك بالقلب
منفذ السمع وسماع الباطل من غناء ولهو وكلام يدنس القلب
منفذ اللسان والكلمات التي يقولها الإنسان لا يراقب الله فيها جراحات تجرح القلب وتلوثه وكم من جرح قتل
الفم ومنه ينفذ اكل الحرام فكُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ   
فمن لم يعتني بطهارة قلبه لن تدخل التقوى إلى ذلك القلب ولن تستقر فيه قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)
فان التقوى لا تسكن إلا قلبا نظيفًا.

الخطبة الثانية    
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
قال الله تعالى : { وَثِياَبَكَ فَطَهِّرْ}
هذه  الآية  توضح بلاغة القرآن في اللفظ والمعنى فهي آية موجزة في كلمتين ولكنها منهج حياة شامل كامل وتعم وتشمل أنواع الطهارات الحسية والمعنوية والظاهرة والباطنة فهي تدل بطريق التنبيه واللزوم على:
طهارة  الجسد بالغسل والوضوء، وطهارة الملبس .
 وطهارة البصر والسمع واللسان مما لا ينفع .
  وطهارة القلب من المعاصي القلبية  ، وطهارة النفس بحفظها من الذنوب "بالتقوى" وتطهيرها من المعاصي "بالتوبة" .
وطهارة العمل من الرياء والنفاق والفساد  . وطهارة العلم من سوء الفهم وسوء القصد وطهارة العقيدة من الريب والشرك والبدع .
وطهارة الأخلاق والسلوك من المعائب والنقائض والمساوئ. وطهارة التعامل مع الناس والعلاقات مع الآخرين من الظلم والبغي والغش والخيانة والغدر وسوء الظن .. وطهارة المأكل والمشرب والتطهر من نجاسات المخدرات والخمر التدخين .
 وطهارة النساء بالمحافظة على الحياء والعفة والتقوى.. وطهارة البيوت من المعاصي.

  عباد الله اعلموا رحكم الله إن سلامة القلب وصلاحه اهم شيء ينجزه الإنسان في هذه الحياة الدنيا فإن المحافظة على القلب من أهم الفروض والواجبات.
وقد حذر الله أشد التحذير من قرب أهل الباطل أو مصاحبتهم عبر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة .
تأمل كيف حذر الله ونهى وحرم من الصلاة مع أهل الباطل وان الصلاة معهم في مسجدهم باطلة مردودة غير مقبولة .. قال الله   تعالى
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ
فاذا كان هذا حكم الله في مسجد أهل الباطل لأنه أسس على غير التقوى فكيف بباطلهم وكيف بمرافقتهم ومصاحبتهم ومتابعتهم وتقليدهم والتشبه بهم .. فلا نجاة ولا سلامة إلا أن تكون من الذي يحبون أن يتطهروا طهارة كاملة شاملة لعلك تكون ممن فازوا بمحبة الله لهم.

الخميس، 24 أكتوبر 2019

شجرة الإيمان وزيادته ونقصانه


الحمد لله الذي غرس شجرة الإيمان في قلوب عباده الأخيار، وسقاها وغذاها بالعلوم النافعة، والمعارف الصادقة،  وجعلها تؤتي أكلها وبركتها كل حين من الخيرات والنعم الغزار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهار، الكريم الرحيم الغفار؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الرسول المصطفى المختار. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار.
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة إبراهيم: 24 - 25] .
فمثل الله كلمة الإيمان - التي هي أطيب الكلمات - بشجرة هي أطيب الأشجار، موصوفة بهذه الأوصاف الحميدة؛ أصولها ثابتة مستقرة، ونماؤها مستمر، وثمراتها لا تزال، كل وقت وكل حين، تعود على أهلها وعلى غيرهم المنافع المتنوعة، والثمرات النافعة.
وشجرة الايمان متفاوتة في قلوب المؤمنين تفاوتا عظيما، بحسب تفاوت هذه الأوصاف التي وصفها الله بها. فعلى العبد الموفق أن يسعى لمعرفتها، ومعرفة أوصافها وأسبابها، وأصولها وفروعها؛ ويجتهد في التحقق من وجودها ونموها  علما وعملا. فإن نصيبه - من الخير والفلاح، والسعادة العاجلة والآجلة - بحسب نصيبه من هذه الشجرة.
والإيمان هو التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله الإيمان به؛ والانقياد لله ظاهرا وباطنا. فهو تصديق القلب واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب وأعمال البدن. وذلك شامل للقيام بالدين كله
والإيمان قول باللسان  وعمل بالجوارح واعتقاد بالقلب يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وأخبر الله تعالى أن الإيمان المطلق تنال به أرفع المقامات في الدنيا، وأعلى المنازل في الآخرة فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [سورة الحديد: 19] . والصديقون هم أعلى الخلق درجة بعد درجة الأنبياء في الدنيا، وفي منازل الآخرة. وأخبر في هذه الآية أن من حقق الإيمان به وبرسله، نال هذه الدرجة.
ويفسر ذلك ويوضحه ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ»
وإيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين في ظاهرهم وباطنهم، في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، وفي كمال طاعتهم لله ولرسله. فقيامهم بهذه الأمور، به يتحقق إيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين.
وقد أمر الله في كتابه بهذا الإيمان العام الشامل، وما يتبعه من الانقياد والاستسلام، وأثنى على من قام به؛ فقال في أعظم آيات الإيمان: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}  وقال الله تعالى مبينا صفات المؤمنين به وبرسله وداعيا
: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
فآمنوا بقلوبهم، والتزموا بقلوبهم، وانقادوا بجوارحهم   وحققوا الإيمان  بالقيام بما أمر الله به قولا، وعملا، واعتقادا.
فمن استكمل هذه الأوصاف فهو المؤمن حقا. ومضمونها القيام بالواجبات الظاهرة والباطنة، واجتناب المحرمات والمكروهات. وبتكميلهم للإيمان استحقوا وراثة جنات الفردوس التي هي أعلى الجنات، كما أنهم قاموا بأعلى الكمالات.
وهذه الآيات صريحة في أن الإيمان يشمل عقائد الدين، وأخلاقه، وأعماله الظاهرة والباطنة. ويترتب ذلك؛ أنه يزيد بزيادة هذه الأوصاف والتحقق بها، وينقص بنقصها، وأن الناس في الإيمان درجات متفاوتة بحسب تفاوت هذه الأوصاف
ولهذا كانوا ثلاث درجات: سابقون مقربون، وهم: الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات. ومقتصدون، وهم: الذين قاموا بالواجبات، وتركوا المحرمات. وظالمون لأنفسهم، وهم: الذين تركوا بعض واجبات الإيمان، وفعلوا بعض المحرمات. كما ذكرهم الله بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}
واذا ذكر الله الإيمان جمع معه  الأعمال الصالحة أو التقوى أو الصبر،. لئلا يظن الظان أن الإيمان يكتفي فيه بما في القلب. فكم في القرآن من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
والأعمال الصالحات: من الإيمان، ومن لوازم الإيمان. وهي التي يتحقق بها الإيمان. فمن ادعى أنه مؤمن - وهو لم يعمل بما أمر الله به ورسوله من الواجبات، ومن ترك المحرمات - فليس بصادق في إيمانه.
كما يقرن بين الإيمان والتقوى، في مثل قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس: 62 - 63] ..
. فذكر الإيمان الشامل لما في القلوب من العقائد والإرادات الطيبة، والأعمال الصالحة. ولا يتم للمؤمن ذلك حتى يتقي ما يسخط الله من الكفر والفسوق والعصيان. ولهذا حقق ذلك بقوله: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . كما وصف الله بذلك خيار خلقه، بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة الحجرات: 7 - 8] .
فهذه أكبر المنن: أن يحبب الله الإيمان للعبد، ويزينه في قلبه، ويذيقه حلاوته، وتنقاد جوارحه للعمل بشرائع الإسلام، ويبغض الله إليه أصناف الفسوق والعصيان وما لا فائدة فيه { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
الخطبة الثانية
 ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن معنى الإيمان وحقيقته أنه اسم جامع لشرائع الإسلام، وأصول الإيمان، وحقائق الإحسان وتوابع ذلك من أمور الدين - بل هو اسم للدين كله – وقد دلت الأدلة  أن الإيمان يزيد وينقص، ويقوى ويضعف.
وهذه المسألة لا تقبل الاشتباه ولا الشك بوجه من الوجوه لا شرعا، ولا حسا، ولا واقعا.
وذلك أن نصوص الكتاب والسنة صريحة في زيادة الإيمان ونقصانه مثل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [سورة الفتح: 4] ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [سورة المدثر: 31] ، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران: 173] ، {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة التوبة: 124]  
وكذلك الحس والواقع يشهد بذلك  ، فإن الناس في علوم الإيمان، وفي معارفه، وفي أخلاقه وأعماله الظاهرة والباطنة - متفاوتون تفاوتا عظيما في القوة والكثرة، ووجود الآثار، ووجود الموانع، وغير ذلك.. فالمؤمنون الكمل عندهم من تفاصيل علوم الإيمان ومعارفه وأعماله، ما ليس عند ضعيفي الإيمان من العلوم  والأعمالهم والأخلاقهم.  فكثير من الناس عندهم علوم ضعيفة مجملة، وأعمال قليلة ضعيفة. وعند كثير منهم، من معارضات الإيمان والشبهات والشهوات، ما يضعف الإيمان، وينقصه درجات كثيرة. فتجد الناس يتفاوتون تفاوتا كثيرا في معرفة  علوم الإيمان وحقيقته ومعناه وأعماله وقوته وآثاره.
عباد الله ، قال الله : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [سورة التغابن:11]
فالعبد إذا  كمل إيمانه وقوي حصل له من الهداية بقدر قوة إيمانه.. وإذا علم الله من قلب العبد خيرا وصلاحا ، هدى الله قلب العبد هداية خاصة للرضا به والصبر على محاب الله والتسليم لأمره والطمأنينة لحكمه والصدق معه والاخلاص له . كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [سورة يونس: 9] .
فالإيمان عندما يكمل في القلوب ويقوى  يكن شاملا لهداية أهله لكل خير، وهدايتهم لترك كل شر؛ والإيمان عندما يكمل في القلوب ويقوى  يكون سببا للبركات والخيرات. والإيمان عندما يكمل في القلوب ويقوى  يكون سببا لعمل الأعمال الصالحات ..والإيمان عندما يكمل في القلوب ويقوى  يكون سببا ودافعا لترك المنكرات ومانعا من ارتكاب الذنوب والسيئات.
والإيمان عندما يكمل في القلوب ويقوى  يكون سببا في حصول  ثمرات الإيمان ولوازمه ومنافعه والإيمان عندما يكمل في القلوب ويقوى  يكون سببا للأمن من الفتن والشرور والعقوبات  
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.