الخميس، 14 نوفمبر 2019

مجاهدة النفس خطبة جمعة

الحمد لله ... أما بعد

مجاهدة النفس فريضة من فرائض الله على عبده (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)

اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ أَنَّ النَّفْسَ مُجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْهَوَى

وهوى النفس مضرر لها ضررا كبيرا وخطيرا فهي مفْتَقرَة إِلَى مُجَاهَدَةِ الهوى  ومُخَالَفَته وَمَتَى لَمْ تُزْجَرْ النفس عن اتباع الهوى هَجَمَ عَلَيْهَا الْفِكْرُ فِي طَلَبِ مَا شُغِفَتْ بِهِ فَاسْتَأْنَسَتْ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ وَالأَطْمَاعِ الْكَاذِبَةِ وَالأَمَانِي الْخادعة خُصُوصًا إِنْ سَاعَدَ الشَّبَابُ والصحة والفراغ فقد يبلغ الإنسان جنون الغفلة وهو لا يشعر.

 أخي رحمك الله : لا نجاة للنفس ولا سعادة لها ولا هداية الا بمجاهدتها، قال الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}

فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

إحْدَاهَا: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ.

الثّانِيَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا..

الثّالِثَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ..

الرّابِعَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لله..

فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَبد لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ.

والواجب على من يريد النجاة والفلاح مجاهدة النفس ومراقبتها ومحاسبتها على ما تُمْدَحُ به وما تُذَم وإلزامها دائماً بأحسن الأمور والأخلاق والبعد عن الأخلاق الذميمة وعن اسباب المعصية التي تدنس النفس والاجتهاد فيما ينفع عند الله.

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}

إن مما يزكي النفس تتبُّع صفات المؤمنين والصفات الحميدة التي دعا إليها القرآن الكريم والرسول ومحاولة التحلي بها، والحذر والبعد مما حذّرا منه من الأخلاق السيئة وأخلاق الكافرين والمنافقين والفاسقين والاحتراس منها والحذر كل الحذر من الوقوع فيها.

أخي وفقك الله : أنت في حاجة شديدة إلى المجاهدة النفس ، فإن النفس مَيَّالة إلى التفلت من القيود والتكاليف، والنفس تنساق وراء سعادة لحظية مُتَوهَّمة تسبب شقاء الأبد!.

ولا يصح لك أن تطلب معالي الأمور بأرخص الثمن!

ولا يصح أن يُطمِّعك في الشر والدناءة حصولهما بغير ثمن!

وإن من يريد عظيماً ومن يريد معالي الأمور لا بد له من أن يدفع ثمنها المناسب، وإلا لاستوى الناس جميعاً في فُرَصِ الوصول إلى المعالي!!.

حقاً ليست العبرة دائماً بمقدار الثمن ولكن بالنتيجة والمُثَمَّنِ، وقد اقتضت سنة الله تعالى في الحياة أن يَبْذل الإنسان لكل شيء ما يناسبه، فللدنيا سعي وللآخرة سعي!! وللفضائل سعيٌ وللرذائل سعيٌ!!.

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}.

 

ومن علامات الانتصار على النفس في معركة الجهاد معها أن تفعل ما يرضي الله ولو كرهته النفس وتجتنب ما يكرهه الله ولو رغبته النفس وأحبته ومالت إليه.

والصبر بأنواعه المختلفة مِن أهم عُدّة المجاهِد لنفسه، ومِن أهم ما يَحتاجه في هذا الباب الصبر عن الشهوة.

فمَن جاهَدَ نفسه لله، وأراد أن يَقوى صبره  فعليه بالنظر في عواقب الأمور كلها.

ومِن أهم ذلك النظر في عواقب الاستجابة للشهوة، أياً كانت هذه الشهوة، حلالاً أم حراماً؛ فإنّ لكلّ عَمَلٍ عاقِبَةً، ولكلِّ خطوةٍ نتيجةً، والنتيجة لك أو عليك!.

إنّ على الإنسان أن يكون موقفه مِن شهوته موقف المراقبة والمحاسبة، لا موقفَ الاسترسال معها والاستجابة لها، وأن يستحضر -قَبْل الاستجابة لشهواته عواقب اتباع الشهوات:

وليعلم العاقل إن الصبر عن الشهوة أسهلُ مِن الصبر على ما توجبه الشهوة من عواقب :

فإنها: إِمّا أَنْ توجب أَلَماً وعقوبةً.

وإِمّا أَنْ تقطع لذةً أكملَ منها كلذة القرب من الله .

وإِمّا أَنْ تُضيع وقتاً إضاعته حسرةٌ وندامةٌ.

وإِمّا أَنْ تَثْلمَ عِرضاً توفيره أنفع للعبدِ مِن ثَلْمه.

وإِمّا أَنْ تُذهِب مالاً بقاؤه خيرٌ له من ذهابه.

وإِمّا أَنْ تَضَعَ قَدْراً وجاهاً قيامه وبقاؤه خيرٌ مِن وضْعه.

وإِمّا أَنْ تَسْلب نعمةً بقاؤها ألذّ وأطيبُ مِن قضاء الشهوة.

وإِمّا أَنْ تُطَرِّقَ لِوَضيعٍ إليك طريقاً لم يَكُن يَجِدها قبلَ ذلك.

وإِمّا أَنْ تَجْلِبَ همّاً وغَمّاً وحُزْناً وخوفاً لا يُقارِبُ لذّة الشهوة.

وإِمّا أَنْ تُنْسيَ عِلْماً ذِكْرُهُ أَلَذّ مِن نَيلِ الشهوة.

وإِمّا أَنْ تُشْمِتَ عدوّاً وتُحزِنَ ولِيّاً.

وإِمّا أَنْ تَقطَعَ الطريق على نِعْمةٍ مُقْبلةٍ.

وإِمّا أَنْ تُحْدِثَ عَيباً يَبقى صفةً لا تَزول؛ فإنّ الأعمال تورث الصفات والأخلاق"!!.

فمن الشجاعة المحمودة مجاهدة الإنسان نفسه ومجاهدة النفس تكون بتعلم وعمل ما ينفع  وبقمع الشهوة وتهذيب النفس وتطهيرها وتزكيتها

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»،

 الخطبة الثانية

الحمد لله .... أما بعد

من لم يجاهد نفسه فسوف يقع في ظلم نفسه قال الله  {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ }

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }

ومن جاهد نفسه نفعها بالهدى ومنعها من الضلال واتباع الهوى قال الله  {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}

ومن لم جاهد نفسه فلن يكن من الشاكرين قال الله  {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}

وعلى قدر مجاهدة النفس تحصل التزكية وتتحقق قال الله  {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ}

 ومن صدق في جهاده لنفسه نال الفقه في الدين وابصرت نفسه ما ينفعها وكان على بصيرة من دينه  قال الله { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا }

من ضعف في جهاده لنفسه فقد حرم نفسه الصالحات وأساء لنفسه قال الله  {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}

ومن السفه والحمق أن يتهاون الإنسان في مجاهدة نفسه على اتباع منهج المرسلين  قال سبحانه {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}

كل إنسان مع نفسه بائع ومشتري فمن شرى نفسه من عذاب الله برضوان الله فقد فاز ومن باع نفسه بثمن بخس من معصية الله فقد خاب وخسر  قال الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}

من لم يصبر على مجاهدة نفسه ويستمر على الإستقامة فقد ضر نفسه بالذنوب والأثام قال تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}

ومن لم يطهر نفسه بالصدقة فقد دنسها بالبخل والشح قال تعالى {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

فمجاهدة النفس فرض وواجب وإيمان وإحسان وطاعة وشكر وصبر وتقوى وجهاد ورباط  قال الله  {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، اللَّهُمَّ ادخلنا فِي حِزبكَ الْمُفِلِحِين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ، وَآمِّنَّا يومَ الفَزَعَ الأَكْبر يومَ الدِّين، وَاحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيين وَالصِّدقِينَ والشُّهْداء والصالحِينِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق