الأحد، 23 سبتمبر 2018

لا تأكل السمك وتشرب اللبن

لا تأكل السمكَ وتشرب اللبن

هذه العبارة فيها مباحث:

الأول: في أول من أطلقها.
فإن فئاما من الناس يزعمون أن سيبويه والنحاة هم من أشاعها بين الناس؛ وهذا غير سديد؛ فإن كثيرا من الأمثلة النحوية الواردة في كتاب سيبويه من قول العرب، وقد نص غير واحدٍ من الأئمة على أن قائل هذه العبارة هم العرب أنفسهم كابن فارس والزمخشري والواحدي وغيرهم، وقد بحثتُ عن أصلها كثيرا، وخلاصة ذلك أمور ثلاثة:
1/ أن مما جرى عند اليهود والنصارى -قديما- منعهم الجمع بين السمك واللبن، واللحم واللبن، وغير ذلك.
2/ أنها كانت شائعة في كتب الطب القديم؛ إذ نقل ما يفيدها أبو بكر الرازي في الحاوي، وابن القيم في الطب النبوي عن ابن ماسويه، وابن مفلح في الآداب الشرعية وغيرهم.
فجاءت على لسان حنين بن إسحاق، وابن ماسويه، وابن سرابيون، وهؤلاء ممن نقل علوم اليونان وفارس إلى العرب في زمن الترجمة.
3/ ذكر ابن القيم في الطب النبوي أنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمع بين السمك واللبن في طعامه، وذكر الصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن الجمع بين السمك واللبن)، وهذا لا يثبتُ.

وقد قال بأنها من صنع النحاة -من المتأخرين-: البشير الإبراهيمي، في رسالة له ضمن آثاره، وابن عثيمين في الشرح الممتع، وبكر أبو زيد في التعالم.

وهذا غير صحيح؛ لما مر.

الثاني: في الصور التي وردت عليها هذه العبارة.
- فقد نقلها سيبويه وجل النحاة على ما اشتهر: لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
- وذكرها أبو العلاء المعري في معجز أحمد، على: أتأكل السمك وتشرب اللبن.
- وذكرها أبو حيان في الارتشاف، على: لا تغتذ بالسمك واللبن.

الثالث: في صحة العبارة من حيث الطب.
- وفي هذا أمور:
1/ أن الطب القديم إنما منع الجمع بين السمك واللبن في مقامين:
- الأول: أن كليهما بارد رطب على الجسم، واجتماع رطبين باردين مما يؤذي الجسم.
- الثاني: أن كليهما مما يفسد الأسنان، وقد ذكر هذا حنين بن إسحاق في كتاب حفظ الأسنان.
2/ أنه ورد في كتب التراث ما يدل على أن ذلك ليس مطردا، بل هو خاص بمكان دون آخر، فقد ذكر الجاحظ أن أهل الزط (من الهند) يجمعون بين السمك واللبن، ولا يؤثر فيهم، كما تجمع العرب بين التمر واللبن.
وعامة الأشفية القديمة قد تكون صالحة لأمم دون أمم، فلا يعترض على العبارة بأنها ليست مطردة، وقد ذكر ابن القيم هذا الضابط في الطب النبوي أيضا؛ لما تعرض للحجامة والفصد وألبان البقر ولحومها، فإن هذه الأشفية وما يقابلها تنفع أمة دون أمة، فالحجامة تناسب أهل المناطق الحارة بخلاف الفصد؛ فإنه لأهل المناطق الباردة.
3/ أن الناس إلى يومنا هذا منهم من يأكل السمك واللبن فيضره ذلك، ومنهم من يفعل فلا يضره، وذلك راجع كما أثبت الطب الحديث إلى معاناة بعض الناس من (الحساسية المفرطة) تجاه السمك، وتجاه اللبن، وتجاه البيض، فاجتماع السمك واللبن يؤذيه. ومن لم يعان فإن ذلك لا يضره.
4/ نقل ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء أن الجاحظ أصيب بالفالج على إثر جمعه بين السمك واللبن، وقد نهاهُ ابن ماسويه عن هذا حين اجتمعا. وهذا الخبر محل نظر.

الرابع: في أوجه هذه العبارة من حيث النحو.
وهذه مشهورة معلومة عند جل الطلبة؛ إذ جوزوا في (تشرب) الجزم عطفا على (تأكل)، والرفع على الاستئناف، والنصب على تقدير: أن، فتكون الواو للمعية. على تفصيل في الأوجه الثلاثة.

أسامة شيراني.