الخميس، 12 مايو 2022

تأملات في سورة المزمل

 

يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ التَّزَمُّلَ، وَهُوَ: التَّغَطِّي فِي اللَّيْلِ ، وَيَنْهَضَ إِلَى الْقِيَامِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ،

وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَثِلًا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}   وَهَاهُنَا بَيَّنَ لَهُ مِقْدَارَ مَا يَقُومُ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا  نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا

وقد مدح الله تعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واستغفاره ومناجاته فقال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}  وقال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}   وقال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}    وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}  وقال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}   وقال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}   وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}   

وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِرَجُلٍ: «لَا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدَعُهُ، وَكَانَ إذَا مَرِضَ صَلَّى قَاعِدًا»   «وقَالَتْ: بَلَغَنِي عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ ‌إنْ ‌أَدَّيْنَا ‌الْفَرَائِضَ لَمْ نُبَالِ أَنْ لَا نَزْدَادَ، وَلَعَمْرِي لَا يَسْأَلُهُمْ اللَّهُ إلَّا عَمَّا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَا أَنْتُمْ إلَّا مِنْ نَبِيِّكُمْ، وَمَا نَبِيُّكُمْ إلَّا مِنْكُمْ، وَاَللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَامَ اللَّيْلِ. »

عباد الله : إن الذي لا يتحمل ثقل الصلاة وما يُقرأ فيها من قرآن فلن يتحمل العمل بالقرآن لأن الله قال بعد الأمر بالقيام وترتيل القرآن (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) إنا سنلقي عليك القرآن، وهو قول ثقيل؛ لما فيه من الفرائض والحدود والأحكام والآداب وغيرها

ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أي: الصلاة فيه بعد النوم {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} الصلاة في الليل أقرب إلى تحصيل  مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذا المقصود .

ثم أخبرنا الله أن هناك قياما طويلا شديدا ثقيلا ، فعلى من ثقلت عليه الصلاة أن يتذكر ذلك اليوم وطوله وشدته وثقله(يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا *  إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ 

إذا قيل للمزمل المُتَلَفِّف بثيابه صل بالليل إلا قليلا

فماذا يقال للمتغطي بالغفلة  وما ظنكم بالملتبس بالكسل

وأين الاقتداء بالرسول وصحابته في ذلك!

‌يُحْيُونَ ‌لَيْلَهُمُ ‌بِطَاعَةِ ‌رَبهِمْ … بِتِلاوَةٍ، وَتَضَرُّعٍ، وَسُؤَالِ

وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ … مِثْلِ انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطَّالِ

فى الَّليْلِ رُهبَانٌ، وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ … لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأبطالِ

وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرَهَانِ رأَيتَهُمْ … يَتَسَابَقُونَ بِصَالِح الأعمالِ

بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبهمْ … وَبهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ المُتَلالى

الخطبة الثانية

الْتِّعْدَادُ السُّكَّانِيُّ الَّذِي تَقَومُ بِهِ الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْإِحْصَاءِ لَهُ أَهَمِّيَّةٌ كبيرة فِي الْتَّخْطِيطِ  وَرِعَايَةِ  الناس ومَصَالِحِهِمُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ  فَعَلَيْنَا الْتَّعَاوُنَ مَعَ هَيْئَةِ الْإِحْصَاءِ وَالْإِدْلَاَءَ بِالْبَيَانَاتِ الدَّقيقَةِ، لِيَعُودَ نَفْعُهُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى الجميع.

إخوة الإيمان: ذكر الله في أول سورة المزمل أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه، وأمته تبع له ،وأنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين.

ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف، فقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} يشق عليهم صلاة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، فليصل المريض ما يسهل عليه.

{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}

يسافرون للتجارة، وطلب الرزق . وهذا سبب دنيوي للتخفيف والمحافظة على ما تيسر من قيام الليل

وكذلك {آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}  

فالانشغال بنصرة الدين  سبب شرعي للتخفيف من قيام الليل والاقتصار على ما تيسر من القيام.

 ثم أمر الله سبحانه في خاتمة السورة بعبادات مهمة:

أولها : قراءة ما تيسر من القرآن وخاصة في الصلاة وصلاة الليل على وجه الخصوص .

وثانيها : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} بأركانها، وشروطها، ومكملاتها،

وثالثها: (وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}   خالصا لوجه الله، من نية صادقة، ومال طيب، ويدخل في هذا، الصدقة الواجبة؟ والمستحبة،

رابعها : الحث على عموم الخير وأفعاله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}

 خامسها : التوبة والاستغفار {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي الأمر بالتوبة والاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير، فائدة كبيرة، وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أُمِرَ به، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص، فأُمِرَ بترقيع ذلك بالتوبة والاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته، فإنه هالك.

واعلموا رحمكم الله : إنَّ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي هَذِهِ الحياةِ مِنْ الْخَيْرِ، يُقَابِلُهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا، وَمَا عَلَيْهَا فِي دَارِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ مِنْ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَإِنَّ الْخَيْرَ وَالْبِرَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، مَادَّةُ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ فِي دَارِ الْقَرَارِ، وَبَذْرِهِ وَأَصْلِهِ وَأَسَاسِهِ.

فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلات، واحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات، واغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها .

فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق