الجمعة، 31 أكتوبر 2025

موانع الخير. .. خطبة جمعة

الخطبة الأولى 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَتَحَ لِعِبَادِهِ أَبْوَابَ الْخَيْرِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى طُرُقِ الْبِرِّ، وَيَسَّرَ لَهُمْ سُبُلَ النَّجَاةِ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى فَضْلِهِ الْعَمِيمِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ الْكَثِيرِ،.
وَأَشْهَدُأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَرَغِبَ فِيهِ، وَنَهَى عَنِ الشَّرِّ وَحَرَّمَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مَا تَرَكَ بَابَ خَيْرٍ إِلَّا دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا طَرِيقَ شَرٍّ إِلَّا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ،أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى:
{وَلَقَدْوَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}
عِبَادَاللَّهِ،
إِنَّأَبْوَابَ الْخَيْرِ كَثِيرَةٌ، وَفُرَصَ الطَّاعَاتِ وَاسِعَةٌ، لَكِنِ الْعَجِيبَ – بَلِ الْمُحْزِنَ – أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَمُرُّونَ بِهَا وَلَا يَدْخُلُونَ، وَيُدْعَوْنَ إِلَيْهَا فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، وَكَأَنَّ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ الْخَيْرِ حَوَاجِزَ وَسُدُودًا.
فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ؟
وَمَا الَّذِي يُثَقِّلُ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةَ؟
وَمَا الَّذِي يَصْرِفُهُمْ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ؟
حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ مَوَانِعِ الْخَيْرِ، تِلْكَ الْعَوَائِقِ الَّتِي إِذَا سَكَنَتِ الْقُلُوبَ، حَرَمَتْهَا نُورَ الطَّاعَةِ، وَأَبْعَدَتْهَا عَنْ سُبُلِ الرَّشَادِ...
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُونَ الْخَيْرَ وَيُحِبُّونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَا عَمِلُوهُ مِنْ خَيْرٍ فِي حَيَاتِهِمْ وَتَمُرُّ عَلَيْهِمْ مَوَاسِمُ تُضَاعَفُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ وَيَفْعَلُونَ بَعْضَ الطَّاعَاتِ وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهَا أَوْ تَقِلُّ أُجُورُهُمْ وَتَضْعُفُ حَسَنَاتُهُمْ فَمَا السَّبَبُ؟
السَّبَبُ هُوَ مَوَانِعُ الْخَيْرِ

وَمِنْ مَوَانِعِ الْخَيْرِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ نَيْلِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
الْغُرُورُ:
قَالَ اللَّهُ: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وَمِنَ الْغُرُورِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْدَعُ نَفْسَهُ وَيُمَنِّيهَا الْأَمَانِيَّ وَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ تَقْصِيرَهُ وَتَهَاوُنَهُ فِي الطَّاعَةِ فَيَغْتَرُّ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) وَمِنَ الْغُرُورِ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ الْمَعْصِيَةَ وَيَرْجُو الْمَغْفِرَةَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ.

ومن موانع الخير 
الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»
فَإِذَا كَانَتِ الذُّنُوبُ تَحْرِمُ الرِّزْقَ فَهِيَ تَحْرِمُ مَا هُوَ أَهَمُّ وَأَنْفَعُ مِنَ الرِّزْقِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

وَمِنْ مَوَانِعِ الْخَيْرِ الْبُخْلُ، فَمَنْ بَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ عُوقِبَ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى:﴿وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ﴾
قَالَ اللَّهُ {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
فَالْبُخْلُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي رِضَا اللَّهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْبُخْلُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ وَمَانِعٌ لِلْخَيْرِ.
ومن موانع الخير 
اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}.
ومن موانع الخير ،
الْكِبْرُ :
الْكِبْرُ لَا يَخْلُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا الْمَعْصُومُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْلِبُ كِبْرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُهُ الْكِبْرُ وَيَصُدُّهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى عُيُوبِهِ، وَيَحُولُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الانْقِيَادِ لِلْحَقِّ. فَالْكِبْرُ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْخَفِيَّةِ فِي النَّفْسِ وَيَمْنَعُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا يَدْخُلُالْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ".
ومن موانع الخير، 
الْحَسَدُ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
:«إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ،»
فَالْحَسَدُ يَحْرِقُ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ
وَالْحَسَدُ يُؤَدِّي لِلْقَبَائِحِ وَيَصْرِفُ عَنِ الْفَضَائِلِ وَيُحَسِّنُ الْفَوَاحِشَ وَالْجَرَائِمَ
وَلَا يَخْلُو جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
وَمِنْ هَذِهِ الْمَوَانِعِ:
الرِّفْقَةُالسَّيِّئَةُ، وَصَدِيقُ السُّوءِ، وَمِنْ أَخْطَرِ أَصْحَابِ السُّوءِ الْبَرَامِجُ وَالْأَجْهِزَةُ الَّتِي يَخْلُو بِهَا الْإِنْسَانُ وَتَضِيعُ وَقْتَهُ وَتَفْتِنُ قَلْبَهُ وَتَشْتَتُ عَقْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَطَرَ أَثَرِ الصَّاحِبِ فِي صَاحِبِهِ فَقَالَ: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾
وَمِنْ مَوَانِعِ الْخَيْرِ نِسْيَانُ اللَّهِ كَمَا حَذَّرَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]

إِخْوَةَالْإِيمَانِ
لَا يَظُنَّ الْإِنْسَانُ إِنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْأَزْمِنَةَ الْفَاضِلَةَ إِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ الْخَيْرَ أَوْ إِنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْخَيْرَ قُبِلَ مِنْهُ فَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا خَبَرَ ابْنَيْ آدَمَ وَأَنَّهُمَا قَرَّبَا قُرْبَانًا لِلَّهِ وَقَامَا بِطَاعَةٍ لَمْ تُقْبَلْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَرُدَّتْ إِلَيْهِ عِبَادَتُهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ مَانِعٌ لِلْخَيْرِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ ضَعْفُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالتَّقْوَى فَقَدْ قَدَّمَ هَابِيلُ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ مَالِهِ فَتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ وَقَدَّمَ قَابِيلُ مِنْ مَالِهِ أَسْوَأَ مَا عِنْدَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، قَالَ اللَّهُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
فَهَلْ أَنْتَ تَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ كَمَا فَعَلَ هَابِيلُ أَمْ بِمَا تُحِبُّ نَفْسَكَ كَمَا فَعَلَ قَابِيلُ؟ إِذَا صَلَّيْتَ لِلَّهِ مَثَلًا، فَهَلْ تُصَلِّي صَلَاةً تُرْضِي اللَّهُ!! أَمْ تُصَلِّي صَلَاةً تُرْضِي نَفْسَكَ وَتُوَافِقُ هَوَاكَ وَتُؤَدِّيهَا كَمَا تُحِبُّ أَنْتَ لَا كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ !!
أَلَمْ نَسْمَعْ وَنَقْرَأُ أَنَّ بَعْضَ الْمُصَلِّينَ لَهُمُ الْوَيْلُ وَالْعَذَابُ {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}
فَهَل اتَّقَيْنَا اللَّهَ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ؟ هَلْ نُصَلِّي حُبًّا لِلَّهِ وَإِخْلَاصًا لَهُ وَرَغْبَةً وَرَجَاءً فِي فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَخَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ وَخَشْيَةً لِعَظَمَتِهِ!!
هَلْ نَحْنُ مِنَ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ وَيُسَابِقُونَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَيُنَافِسُونَ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّبْكِيرِ أَمَّا نَحْنُ مِنَ الَّذِينَ يَتَأَخَّرُونَ بِسَبَبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْكَسَلِ وَتَعَوَّدُوا عَلَى التَّأَخُّرِ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ.»

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَفُوتُهُمْ فُرْصَةُ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ أَوْقَاتِهِمْ أَوْ مِنْ فَضْلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَيَّامِ السَّنَةِ، بِسَبَبِ وُجُودِ مَوَانِعَ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، مِثْلَ:
الْكَسَلُ وَالتَّسْوِيفُ فِي الطَّاعَاتِ.
وَالِانْشِغَالُ بِالدُّنْيَا عَنِ الْعِبَادَةِ.
وَضَعْفُ الْهِمَّةِ فِي الطَّاعَةِ.
وَالذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُثَقِّلُ الْقَلْبَ وَتُبْعِدُ عَنِ الطَّاعَةِ
وَالِانْشِغَالُ بِالْمُلْهِيَاتِ.

وَالنَّتِيجَةُ: أَنَّهُمْ يَخْسَرُونَ أَعْمَارَهُمْ وَأَوْقَاتَهُمْ وَيَخْسَرُونَ مَوْسِمًا عَظِيمًا لِلثَّوَابِ، كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُكَفِّرَ ذُنُوبَهُمْ، وَيُقَرِّبَهُمْ مِنَ اللَّهِ.
الْعِبْرَةُمِنْ ذَلِكَ وَالْفَائِدَةُ.
هِيَ رِسَالَةٌ لَنَا جَمِيعًا أَنْ نَغْتَنِمَ هَذِهِ الْأَيَّامَ مَا اسْتَطَعْنَا، وَنَشْغَلَ أَنْفُسَنَا فِيهَا بِمَا يَنْفَعُنَا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمِنْ خَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ بِصِدْقٍ وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ …
فَمَنْ حُرِمَ خَيْرَ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَهُوَ الْمَحْرُومُ حَقًّا
قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ" يَعْنِي الْعَشْرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَسْأَلَةِ، وَخَيْرَ الدُّعَاءِ،
وَخَيْرَالنَّجَاحِ، وَخَيْرَ الْعَمَلِ، وَخَيْرَ الثَّوَابِ، وَخَيْرَ الْحَيَاةِ، وَخَيْرَ الْمَمَاتِ،

نور البصيرة في الدين. . خطبة جمعة

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أرسل الرسل بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وجعل البصيرةَ في الدِّين نورًا يميز به عباده بين الحق والباطل، والهدى والضلال.
نحمده سبحانه حمدًا يليق بجلاله، ونشكره على نعمة الإسلام والإيمان، ونعمة البصر والبصيرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوثُ رحمةً للعالمين، وهدايةً للناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
تَأملُوا مَعِي – رَحِمَكُمُ الله – حال رَجُلٍ يَدخُلُ مَغَارَةً مُظْلِمَةً مُوَحِشَةً قد زادتها ظلمة الليلة ظلمة ووحشة، تُحِيطُ بِهَا الحُفَرُ وَالصُّخُور، وَتَكْتَنِفُهَا المَخَاطِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، يَحْمِلُ فِي يَدِهِ مِصْبَاحًا صَغِيرًا يُنِيرُ لَهُ الطَّرِيق، يُمَيِّزُ بِهِ مَوْضِعَ الخَطَرِ مِنْ مَوْضِعِ السَّلَامَةِ، وَموضع الخطوة الآمنة مِنَ المَزَلَّة .
ثُمَّ فَجْأَةً... يَنْطَفِئُ المِصْبَاح!
فَإِذَا بِهِ يَتَخَبَّطُ فِي الظُّلْمَةِ، لا يرى شيئا ولا يهتدي للمخرج الآمِنٍ لينجو من هَاوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ، فهو مرعوبٌ مضطربٌ حائرٌ يَصْطَدِمُ رَأْسُهُ بِالصُّخُور تارة ، وَيَسْقُطُ فِي الحُفَرِ تارة أخرى، وَرُبَّمَا تُوْدِي بِهِ الخُطْوَةُ الوَاحِدَةُ إِلَى الهَلَاكِ.
وَمَا أَشْبَهَ لَيْلَ المَغَارَةِ بَلَيْلِ الفِتَنِ إِذَا أَطْفَأَ العَبْدُ نُورَ الإيمَانِ فِي قَلْبِهِ!
وَكَما أَنَّ الرَّجُلَ فِي المَغَارَةِ مَهَدَّدٌ بِهَلَاكِ جَسَدِهِ، فَإِنَّ مَنْ فَقَدَ بَصِيرَتَهُ فِي بَحْرِ الفتن المتلاطمة وعواصف المَحْتَوَى المُضِلِّ مَهَدَّدٌ بِهَلَاكِ قَلْبِهِ وَضِيَاعِ دِينِهِ.
وهذا – أَيُّهَا المُؤْمِنُون – هُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا هذَا، زَمَنٍ تَمُوجُ فِيهِ أَلْوَانُ المغريات وترتفع أَصْوَاتُ السفه، وَتُزَيَّنُ الفِتَنُ بِأَسْمَاءِ الحُرِّيَّةِ وَالثَّقَافَةِ وَالانْفِتَاحِ!
فَلَمْ يَعُدِ الخَطَرُ أَنْ تَفْقِدَ بَصَرَكَ، بَلْ أَنْ تَفْقِدَ بَصِيرَتَكَ!
ذَاكَ لا يَرَى الصُّخُورَ فِي ظُلْمَةِ الأَرْضِ، وَهَذَا لا يَرَى الحَقَّ فِي ظُلْمَةِ مَا يُشَاهِدُ وَيَتَابِعُ!
ذَاكَ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الوُحُوشِ والهوام فِي المَغَارَةِ، وَهَذَا يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الفِتْنَةِ وَهِيَ تُزَيَّفُ الحق وتزين الباطل فِي قوالب تتلبس بالفِكْرِ وَالثَّقَافَةِ!
ذَاكَ يَضِيعُ طَرِيقَ الخُرُوجِ من مخاطر الكهف، وَهَذَا يَضِيعُ طَرِيقَ الوصول إلى الجَنَّةِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُهْتَدٍ!
النَّجَاةُ – عِبَادَ الله – بِنُورٍ مِنَ اللهِ لا يَنْطَفِئُ أَبَدًا، نُورٍ يُسَمِّيهِ القُرْآنُ البَصِيرَة؛ نُورٌ تَرَى بِهِ الحَقَّ حَقًّا وَلَوْ خَفِيَ، وَالبَاطِلَ بَاطِلًا وَلَوْ لَمَعَ، وَتُمَيِّزُ بِهِ المَهْتَدِي مِنَ المُضِلِّ، وَالنَّاصِحَ مِنَ المُخَادِعِ.
فليس أخطر على الإنسان من أن يعيش بعينين مبصرتين وقلبٍ أعمى!
أيها المسلمون:
مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَأَجَلِّ المَنَن: نِعْمَةُ البَصِيرَةِ فِي الدِّينِ، وَهِيَ النُّورُ الَّذِي يجعلهُ اللهُ فِي القَلْبِ، فَيُفَرِّقُ بِهِ المَرْءُ بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالحَقِّ وَالبَاطِلِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) [يونس: 108].
فالبَصِيرَةُ لَيْسَت مُجَرَّدَ عِلْمٍ يُحْفَظُ أَوْ مَعْلُومَةٍ تُنقل، بَلْ هِيَ نُورُ القَلْبِ وَيَقِينُ الفُؤَادِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ:
"البَصِيرَةُ كَالبَصَرِ، وَالبَصَرُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَلْوَانِ والأشياء، وَالبَصِيرَةُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقَائِقِ وَالمَعَانِي."
وَأَمَّا عَمَى البَصِيرَةِ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ عَمَى البَصَرِ، لِأَنَّ مَنْ عَمِيَ بَصَرُهُ فَقَدْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، وَمَنْ عَمِيَت بَصِيرَتُهُ فَقَدْ ضَلَّ الهِدَايَةَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].
وَلِهذَا كَانَ المُؤْمِنُ يَرَى بِنُورِ اللهِ، لا يَخْدَعُهُ البَرِيقُ، وَلا تَغْرِيهِ الزُّخارُف، وَلا تَسْتَهْوِيهِ الصَّيَحَاتُ البَاطِلَةُ.
أَمَّا مَنْ أُطْفِئَ نُورُ قَلْبِهِ، فَهُوَ وَإِنْ فُتِحَت لَهُ أَبواب الدنيا وشهواتها، فهو يَعِيشُ فِي ظُلْمَةٍ حَالِكَةٍ، لا يَسْمَعُ الحَقَّ سَمَاعَ مُنتَفِعٍ، وَلا يُبْصِرُ الهُدَى إبْصَارَ مُهْتَدٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ: عَيْنَانِ فِي رَأْسِهِ لِدُنْيَاهُ، وَعَيْنَانِ فِي قَلْبِهِ لآخِرَتِهِ، فَإِنْ عُمِيَت عَيْنَا قَلْبِهِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ بَصَرُهُ شَيْئًا.
وَصَدَقَ القَائِلُ:
وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بِنَاظِرِهِ *** إِذَا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأَنْوَارُ وَالظُّلَمُ.
أيها المؤمنون:
القُرْآنُ وَالسُّنَّةُ هُمَا مصدر البَصِيرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) [الأنعام: 104].
فَمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا أَبْصَرَ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمَا عَمِيَ.
وَفِي زَمَنٍ تتخطف فِيهِ العُقُول خواطف الشُّبُهَاتِ، وَتَغْمُرُ القُلُوبَ أَمْوَاجُ الشَّهَوَاتِ، لا نَجَاةَ إِلَّا لِمَنْ حَمَلَ فِي صَدْرِهِ نُورَ الوَحْيِ، وَاسْتَضَاءَ بِكِتَابِ اللهِ وَهَدْيِ نَبِيِّهِ ﷺ.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّن أَبْصَرَ الحَقَّ فاهتدى ، وَاسْتَضَاءَ بِنُورِ الوَحْيِ فِي حياتهِ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الهُدَى وَاليَقِينِ.
أَقُولُ قَوْلِي هذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَهْدِي لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يُؤْتِي البَصِيرَةَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ المُقَرَّبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِمَامُ أَهْلِ البَصَائِرِ وَاليَقِينِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا المُسْلِمُون، بَعْدَ أَنْ سَمِعْنَا أَنَّ فَقْدَ البَصِيرَةِ هُوَ العَمَى الحَقِيقِيُّ فِي هذه الحياة ، يَبْقَى السُّؤَالُ الأَهَمُّ وهو : كَيْفَ يضِيءُ نُورَ البَصِيرَةِ فِي صُدُورِنَا؟ وَكَيْفَ نَكُونُ مِنْ أَهْلِ البَصِيرَةِ حَقًّا؟
البَصِيرَةُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ تُطْلَبُ، وَطَرِيقٌ وَاضِحٌ يُسْلَكُ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُبْصِرَ قَلْبُهُ فَلْيَأْخُذْ بِأَسْبَابِ الإبْصَارِ الَّتِي لا غِنَى عَنْهَا:
أولها: دُعَاءٌ صَادِقٌ بِقَلْبٍ مُضْطَرٍّ، فَالْبَصِيرَةُ نُورٌ يجعله اللهُ في قلوب الصادقين المخلصين، فلنلزم الدعاء ليكرمنا للهُ بالبصيرة ، يَقُولُ: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
فَاسْأَلُوا اللهَ بِيَقِينٍ، كَمَا كَانَ نَبِيُّهُ ﷺ يَدْعُوه بيقين.
ورددوا في كل حين «اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ».
وثانيها: مَنْ أَرَادَ نُورَ البَصِيرَةِ فَلْيَتَدَبَّرِ الوَحْيَيْنِ، فَلَا تَقْرَأْ القُرْآنَ قِرَاءَةَ الغَافِلِ، بَلْ قِرَاءَةَ مَنْ يَبْحَثُ عَنْ نُورٍ يُضِيءُ لَهُ عَتَمَةَ الطَّرِيقِ، فَفِي القُرْآنِ بَصَائِرُ، وَفِي السُّنَّةِ هِدَايَةٌ، وَاللهُ يَقُولُ: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ).
وثالثها: من أراد نور البصيرفعليه بصُحْبَة الأَخْيَارِ وَالعُلَمَاءِ الرُّبَّانِيِّينَ، فَإِنَّ نُورَهُمْ يُقْتَبَسُ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ، وَمُجَالَسَتُهُمْ تُحْيِي القُلُوبَ المَيِّتَةَ كَمَا يُحْيِي المَطَرُ الأَرْضَ الجَدْبَاءَ.
قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "إِنَّ لِلْفِتْنَةِ إِذَا أَقْبَلَتْ عَرَفَهَا كُلُّ عَالِمٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَرَفَهَا كُلُّ جَاهِلٍ".
ومصاحبة العلماء الصالحين يسيرة وسهلة وتكون بمصاحبة كتبهم والانتفاع بعلمهم ولو كانوا قد ماتوا قبل قرون.
ورابعها: التَّفَكُّرُ فِي العَوَاقِبِ، فَلا يَغُرَّنَّكَ بَرِيقُ البَاطِلِ، بَلِ انْظُرْ إِلَى نِهَايَتِهِ، وَلا يُثْبِطْنَّكَ الشيطان عن طَرِيق الحَقِّ، بَلِ انْظُرْ إِلَى عَاقِبَتِهِ وَجَزَائِهِ. فَصَاحِبُ البَصِيرَةِ هُوَ مَنْ يَرَى بِنُورِ اللهِ عواقب الأمور ومآلها.
.
وخَامسها: وَهُوَ سِياجُ كُلِّ مَا سَبَقَ: اجْتِنَابُ المَعَاصِي، فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالمَعْصِيَةُ ظُلْمَةٌ، وَلا يَجْتَمِعَانِ.
فَاسْأَلْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ: كَيْفَ يَرْجُو قَلْبٌ غَارِقٌ فِي ظُلْمَاتِ الذُّنُوبِ أَنْ يُبْصِرَ نُورَ الحَقِّ؟
إِنَّ للذُّنُوبِ رَانٌ عَلَى القَلْبِ يُطْفِئُ بَصِيرَتَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى الإِمَامِ مَالِكٍ سُوءَ حِفْظِهِ، فَقَالَ لَهُ: "اتَّقِ اللهَ، فَإِنَّهُ سَيَجْعَلُ لَكَ نُورًا".
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَخُذُوا بِأسْبَابِ البصيرة في الدين، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا أَشْرَقَ نُورُ البَصِيرَةِ فِي قَلْبِهِ، فَلَمْ تَخْدِعْهُ فِتْنَةٌ، وَلَمْ تَسْتَهْوِهِ شُبْهَةٌ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ:
(وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) [الفرقان: 73].
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ البَصِيرَةِ فِي الدِّينِ، وَمِنَ السَّائِرِينَ عَلَى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِالقُرْآنِ، وَبَصِّرْنَا بِالحَقِّ، وَاصْرِفْ عَنَّا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ بَعَثَهُ اللهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

سورة الفاتحة: حوار بين العبد وربه .. خطبة جمعة

الخُطْبَةُ الأُولَى
الحمدُ للهِ الَّذي جَعَلَ القُرآنَ حياةَ القلوبِ ونورَ البصائرِ،
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ أيُّها المؤمنونَ،
نتأملُ اليومَ أعظمَ سورةٍ في كتابِ اللهِ، السُّورةِ التي لا تَصِحُّ صلاةٌ إلَّا بها، فاتحةِ الكتابِ وفاتحةِ الصَّلاةِ، وهيَ الشِّفاءُ التَّامُّ، وهيَ أُمُّ القُرآنِ، وهيَ السَّبعُ المثاني، والكنزُ الإلهيُّ الَّذي أُوتِيَهُ نبيُّنا ﷺ دونَ سائرِ الأنبياءِ. وامتنَّ اللهُ بها عليه، فقال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}.
لقدْ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ لأبي سعيدِ بنِ المُعلَّى رضيَ اللهُ عنه:
«لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، ثمَّ قالَ:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، هيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ».
إنَّ هذا التَّعظيمَ النبويَّ ليسَ مجرَّدَ فَضيلةٍ تُروى، بلْ هوَ إشارةٌ لمزيدِ العنايةِ بهذهِ السُّورةِ علمًا وفهمًا وعملًا، فهيَ الخُلاصةُ الجامعةُ لمقاصدِ الدِّينِ كُلِّهِ.
أيُّها المُسلمونَ،
إنَّ عظمةَ الفاتحةِ تظهرُ في أمورٍ؛ منها: أنَّها حِوارٌ إلهيٌّ بينَ العبدِ وربِّهِ، حِوارٌ نُكرِّرُهُ في كلِّ ركعةٍ، ليكونَ بمثابةِ إعادةِ برمجةٍ للقلبِ والعقلِ والرُّوحِ.
هذا الحِوارُ قَسَمَهُ اللهُ بينَهُ وبينَ عبدِهِ نصفَيْنِ، كما جاءَ في الحديثِ القُدسيِّ:
«قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ».
دعونا نتدبَّرُ هذهِ المحطَّاتِ الَّتي نمرُّ بها في كلِّ صلاةٍ:
محطَّةُ الثَّناءِ والتَّمجيدِ:
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
هذا هوَ النِّصفُ الأوَّلُ الَّذي هوَ للهِ عزَّ وجلَّ.
فإذا قالَ العبدُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ»، قالَ اللهُ تعالى: «حَمِدَنِي عبدي».
وهذا الحمدُ ليسَ مجرَّدَ شكرٍ على نعمةٍ زائلةٍ، بلْ هوَ اعترافٌ مُطلَقٌ بالكمالِ والجلالِ والجمالِ لربِّ العالمينَ، وأنْ نحمَدَ اللهَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، وفي الغِنى والفقرِ، وفي القوَّةِ والضَّعفِ.
ثمَّ يأتي اسمانِ جليلانِ من أسماءِ اللهِ الحُسنى، وقد تضمَّنا صفةَ الرَّحمةِ لربِّ العالمينَ؛ لتَنزِلَ السَّكينةُ في القلبِ المؤمنِ، فيحيَا بطمأنينةٍ، ويتجدَّدَ فيهِ الأملُ كلَّما ردَّدَ في صلاتِهِ: «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فيردُّ اللهُ عليهِ فيقولُ: «أَثْنَى عليَّ عبدي».
يا لها من طمأنينةٍ! أنْ تعلمَ أنَّ ربَّكَ الَّذي تحمَدُهُ هوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ. وهنا يَستحيي العبدُ من تقصيرِهِ في حقِّ اللهِ، ويُشرِقُ رَجاؤُهُ في السَّعيِ إلى مغفرةِ ربِّهِ، والمُسارعةِ إلى أبوابِ رحمتهِ، وهوَ مردِّدًا ومعتقدًا وخاضعًا: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»، فيردُّ اللهُ تعالى عليهِ فيقولُ: «مَجَّدَنِي عبدي».
لأنَّ ذلك العبدَ عَلِمَ بيقينٍ أنَّ بعدَ هذهِ الحياةِ مَوعِدًا للحسابِ والجزاءِ يجمَعُ اللهُ لهُ النَّاسَ، وهذا الإيمانُ يُوقِظُ في القلبِ المسؤوليَّةَ واليقظةَ. وإنَّ الدُّنيا دارُ عملٍ، ووراءَها يومٌ لا يملِكُ فيهِ أحدٌ شيئًا إلَّا اللهُ.
هذا الاستشعارُ يَمنَعُكَ من الظُّلمِ، ويُحرِّرُكَ من العبثِ، ويجعَلُكَ تعملُ ليومٍ لا يَنفَعُ فيهِ مالٌ ولا بنونَ.
عبادَ اللهِ،
ومن محطَّاتِ التَّأمُّلِ لنفهمَ ونعملَ: محطَّةُ العهدِ والتَّحرُّرِ من أهواءِ النَّفسِ وشهواتِها:
(إيَّاكَ نَعبُدُ وإيَّاكَ نَستَعِينُ).
وهنا نصلُ إلى قلبِ الفاتحةِ، ومركزِ التَّحوُّلِ في حياةِ المسلمِ.
هذهِ الآيةُ هيَ عهدٌ في كلِّ لحظةٍ وركعةٍ، معرفةُ الهدفِ من الحياةِ، وأنَّ وظيفتَنا فيها تحقيقُ العبوديَّةِ للهِ على نورِ التَّوحيدِ الخالصِ وتحتَ مظلَّتِهِ.
(إيَّاكَ نَعبُدُ وإيَّاكَ نَستَعِينُ) هيَ إعلانُ تحرُّرٍ من كلِّ عبوديَّةٍ لغيرِ اللهِ.
«إيَّاكَ نَعبُدُ»: هيَ غايةُ التَّذلُّلِ والمحبَّةِ للهِ وحدَهُ، وأنْ تُخصِّصَ كلَّ حركاتِكَ وسكناتِكَ، وكلَّ أهدافِكَ وطموحاتِكَ، للهِ لا لشُهرةٍ ولا لمالٍ ولا لمخلوقٍ.
«وإيَّاكَ نَستَعِينُ»: هيَ غايةُ التَّوكُّلِ والافتقارِ للهِ وحدَهُ، وأنْ تعلمَ أنَّكَ مهما بلغتَ من القوَّةِ والذَّكاءِ، فإنَّكَ عاجزٌ عن تحقيقِ أيِّ شيءٍ دونَ عونِهِ سبحانهُ.
لقدْ قدَّمَ اللهُ العبادةَ على الاستعانةِ ليُعلِّمَنا أنَّ العبادةَ هيَ الثَّمنُ، والاستعانةَ هيَ النَّتيجةُ، فمَنْ صدَقَ في عبوديتِهِ أعانَهُ اللهُ على كلِّ أمرِهِ.
وحقيقةُ الدِّينِ ورأسُهُ وأساسُهُ هوَ تحقيقُ: «إيَّاكَ نَعبُدُ وإيَّاكَ نَستَعِينُ».
فإذا قالَ العبدُ هذهِ الآيةَ، قالَ اللهُ تعالى: «هذا بيني وبينَ عبدي».
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمهُ اللهُ:
«تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ، فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ العَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الفَاتِحَةِ فِي: (إيَّاكَ نَعبُدُ وإيَّاكَ نَستَعِينُ)».
عبادَ اللهِ،
ومن محطَّاتِ التَّأمُّلِ والهدايةِ في سورةِ الفاتحةِ أنَّ أهمَّ شيءٍ يحتاجُهُ المسلمُ هوَ الهدايةُ، وأعظمُ إنجازٍ يُحقِّقُهُ في حياتِهِ هوَ الهدايةُ، وأنَّ الإنسانَ النَّاجحَ هوَ من يسعى دائمًا ليزدادَ هدايةً.
فهوَ يُردِّدُ في كلِّ لحظةٍ وركعةٍ، معترِفًا بشدَّةِ حاجتِهِ وفقرِهِ للهدايةِ، فيقولُ بقلبِهِ وجوارحِهِ قبلَ لسانِهِ:
(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)، فيردُّ اللهُ على عبدِهِ الصادقِ في طلبِ الهدايةِ: «هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل».
وهذا هوَ النِّصفُ الثاني من السُّورةِ الَّذي هوَ للعبدِ، وهوَ أعظمُ دعاءٍ يمكنُ أنْ تسألَهُ ربَّكَ. فأنتَ لا تطلبُ مالًا، ولا ولدًا، ولا صحَّةً، بلْ تطلبُ الثَّباتَ على الطَّريقِ الَّذي يُوصِلُكَ إلى كلِّ خيرٍ، وإلى النَّجاةِ من النَّارِ، والفوزِ بالجنَّةِ.
إنَّ تكرارَ هذا الدُّعاءِ في كلِّ ركعةٍ هوَ اعترافٌ منكَ بحاجتِكَ المستمرَّةِ للهدايةِ، وأنَّ قلبَكَ قدْ يتقلَّبُ في أيِّ لحظةٍ.
الهدايةُ ليستْ مجرَّدَ معرفةٍ، بلْ هيَ توفيقٌ للعملِ الصالح، وثباتٌ على الحقِّ، وسلامةٌ منَ الانحرافِ، ومجاهدةٌ على الاستقامة.
أيُّها المسلمونَ،
إنَّ الفاتحةَ هيَ شفاءُ القلوبِ والأبدانِ. فهلْ نُدركُ عظمةَ هذهِ السُّورةِ؟! وهلْ نعيشُ حقيقةَ الفاتحةِ في صلاتِنا؟!
هلْ نستشعرُ عظمةَ هذا الحوارِ الإلهيِّ؟!
هلْ نُدرِكُ أنَّنا نُكرِّرُ كلامَ اللهِ العظيمِ ليُصلِحَ ما فَسَدَ من قلوبِنا وحياتِنا؟!
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي أنزَلَ القرآنَ هُدًى للعالَمين، وجعلَ فيهِ شفاءً ورحمةً للمؤمنين،
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليهِ، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ فِي اللهِ،
هَلْ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَنَحْنُ نُدْرِكُ حَقِيقَةَ قَوْلِنَا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؟
هَلْ تَسْتَشْعِرُ – يَا عَبْدَ اللهِ – وَأَنْتَ تَقْرَؤُهَا أَنَّكَ تُعْلِنُ عُبُودِيَّتَكَ لِلهِ وَحْدَهُ، وَتَتَبَرَّأُ مِنْ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَتَلْتَجِئُ إِلَى الله وحده؟
أَتَأْتِي الصَّلَاةَ بِقَلْبٍ مُنْكَسِرٍ يَطْلُبُ مِنَ اللهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِصَلَاةٍ خَاشِعَةٍ مَقْبُولَةٍ تُقَرِّبُكَ مِنْهُ، أَمْ بِقَلْبٍ غَافِلٍ يَنْتَظِرُ مَتَى تَنْقَضِي الصَّلَاةُ لِيَعُودَ إِلَى دُنْيَاهُ؟
تَذَكَّرْ – يَا عَبْدَ اللهِ – حِينَ تَقِفُ فِي صَلَاتِكَ، أَنَّكَ تَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ المَلِكِ العَظِيمِ، وَأَنَّهُ سَيَأْتِي يَوْمٌ تَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي يَوْمٍ مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَنْتَ؟ فَرِيقٌ يَسْتَثْقِلُ الصَّلَاةَ فَيَطْلُبُ الْخَلَاصَ مِنْهَا، وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: "أَرِيحُونَا مِنْهَا"، أَمْ فَرِيقٌ يَرَى فِيهَا رَاحَتَهُ وَسَعَادَتَهُ، فَيَقُولُ كَمَا قَالَ نَبِيُّهُ ﷺ: "أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ"؟
اقمها لندخل فيها فنجد الراحة والطمأنينة.
عِبَادَ اللهِ،
هَلْ نُدْرِكُ حِينَ نَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاتِنَا: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أَنَّنَا نَطْلُبُ مِنَ اللهِ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ، نِعْمَةَ الْهِدَايَةِ؟
فَنَسْأَلُهُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، الذين أنعم الله عليهم، ونَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّالِّينَ الَّذِينَ عَبَدُوا اللهَ عَلَى جَهْلٍ وَهَوًى.
فَاحْذَرْ – يَا عَبْدَ اللهِ – أَنْ تَكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ أُولَئِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ عَرَفَ الطَّرِيقَ ثُمَّ تَثَاقَلَ عَنْ سُلُوكِهِ فَقَدْ شَابَهَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْهِدَايَةِ وَتَهَاوَنَ بِهَا فَقَدْ ضَلَّ السَّبِيلَ.
وَلَوْ أَنَّهُ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مَبْلَغَ عَشْرِ رِيَالَاتٍ، لَرَأَيْتَ الْمَسَاجِدَ تَمْتَلِئُ، وَالصُّفُوفَ تَمْتَدُّ، وَالنُّفُوسَ تَنْشَطُ وتفرح بالصلاة من أجل شيء زهيد من الدنيا، وَلَكِنَّ هناك جَائِزَةٌ أَعْظَمُ للمخلصين، جَائِزَةٌ رَبَّانِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، لَا تَنْقَضِي وَلَا تَفْنَى.
غَيْرَ أَنَّ ضَعْفَ الْإِيمَانِ وَغَلَبَةَ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ جَعَلَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَغْفُلُونَ عَنْ ذَلِكَ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ،
إِنَّ الصَّلَاةَ طَرِيقُ الْهِدَايَةِ، وَمِفْتَاحُ الْفَلَاحِ، وَسُلَّمُ الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ.
فَجَاهِدْ نَفْسَكَ عَلَى الْخُشُوعِ، وَذَكِّرْهَا بِعَظَمَةِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّكَ، وَقُلْ لَهَا: يَا نَفْسُ، إِنَّمَا خُلِقْتِ لِعِبَادَةِ اللهِ، فَلَا تَكُونِي مِنَ الْغَافِلِينَ.
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَاجْعَلْ صَلَاتَنَا قُرَّةَ أَعْيُنِنَا، وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا تَقْصِيرَنَا، وَاهْدِنَا صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.