الخميس، 15 مارس 2012

دروس من قصة طالوت في انتصاره على الطاغية جالوت

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
إن قصة انتصار طالوت وجنوده على الطاغية جالوت وجنوده قصة فيها الاعتبار والاستبصار للأمة الإسلامية لأن الله قص هذه القصة لعلمه أن الأمة الإسلامية سيصيبها من أعدائها وتقصيرها في دينها ما أصاب بني اسرائيل ، فحذر الله هذه الأمة من اسباب المصائب قبل وقوعها وبين لها أن الوقاية خير وأهم من العلاج وأعطاها الدواء قبل الداء.
ولكن الأمة الإسلامية لم يزل الكثير من أفرادها يطلب ويتلقى وينتظر الدواء ممن أصابها بالداء والنفع ممن فعل بها الضرر والنصر ممن قاتلها وسحقها ودمرها ، وبعضها  يتخبط في تجربة النظريات الأرضية بحثا عن مخرج ، وآخر في حلبة العراك لينتصر  للآراء البشرية  ظنا منه إنه سيظفر برأي رشيد منقذ ، وثالث يعيش في الاستغراق في الجزئيات على حساب ضياع الكليات، ورابع غرق في الغفلة وإتباع الشهوات ، وخامس ...الخ.
وقد جرب بنوا اسرائيل حياة التيه فلم يجدوا الفلاح والعز والنصر والكرامة إلا في التمسك بالدين وإقامة علم الجهاد ، وكان حال بني اسرائيل وما أصابهم من طواغيت زمانهم بسبب ذنوبهم في زمن وقوع هذه القصة مثل حال الأمة الإسلامية اليوم.
أفما آن لهذه الأمة التي أكرمها الله بنور الوحي وهُدَى الكتاب والسنة أن تعود إلى ربها وتحذر من التيه وتتعلم من علم العليم وتتجمل بلباس التقوى والطاعة لخالقها وتستمد خبرتها وبصيرتها من كلام الخبير البصير ، وحكمتها من الحكيم ، وتتقوى بقوة القوي وتعتز بعزة العزيز فتعمل بكتابه وتتبعه أماما معصوما على هَدِي رسوله وفق منهج أصحابه ، فهذه القصة  قصة تعليمية تربوية عسكرية سياسية إصلاحية من قصص الكتاب العزيز لتدل المسلمين على طريق الفلاح وترشدهم لسبيل النجاة وتضعهم على بداية خطوات النصر وتبين لهم أسباب التمكين ، فإلى أول مشاهد هذه القصة واستخلاص بعض ما فيها من الدروس.
المشد الأول: من مشاهد قصة طالوت وانتصاره على جالوت.
قال الله سبحانه وتعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ   قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا   قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ   وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة : 246].
قد قص الله علينا هذه القصة وكأنها واقعا مشاهدا أمامنا بقوله ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ) والملأ هم الوجهاء والأشراف ، وكانوا بعد موت موسى بزمن طويل ، فطلبوا من نبيهم تعيين مَلِكا يقودهم لجهاد عدوهم ليقينهم إن تحرير بلادهم وإقامة دينهم واسترداد حقوقهم واستعادت كرامتهم لا يكون إلا بالجهاد ، ولكن هذا النبي أراد أن يختبر قوة عزائمهم ومدى استجابتهم (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) ، عسى أن يفرض عليكم القتال فتتخلفوا عنه ! لأنه قد علم من ضعفهم وهوانهم بسبب تمكن عدوهم منهم  وقوة تسلطه عليهم ما جعله يختبرهم بهذا السؤال ، فسمع نبيهم حسن إجابتهم ورأى حماسهم (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) ولكن هذا الحماس لم يستمر بل ضعف وذهب عند الكثير حين فرض الجهاد وحضرت ساعة الجد والنفير (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ  وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فتخلفوا واختفوا ولم يستجب ويصمد إلا القليل وأما الكثير الظالم فتولى (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فهذا وعيد أكيد وتهديد شديد لمن تولى عن فريضة الجهاد.
ونستفيد من هذه المشهد الدروس التالية:
1 – أن الذي يقرر أمر الجهاد هم الملأ  أهل الحل والعقد من كبراء الناس في العلم والخبرة والدراية بالأمور المتصفين بالأمانة والصدق والإخلاص ، وليس هذا الأمر الكبير للعامة.
فحين تولى أهل العلم والخبرة والاختصاص إدارة المعركة بتجرد من الحظوظ الدنيوية والمؤثرات النفسية كانت العاقبة النصر والتمكين ، وحين يُترك هذا الأمر لغير أهله فلا تنتظر إلا الفشل والهلاك والزوال بعد التيه في ظلمات المهانة والتخبط في مفترق الطرق واللهث وراء سراب  الخداع .
2 – ومن فوائد قوله (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا) أن النبي أو من يقوم بوظيفته من أهل العلم هم من يشرف على تنفيذ الأمور ولا يباشر القيام بها بل الذي يباشر هو الملك الذي طلبوا تعيينه فإذا استنار الملك بنور النبوة وجعل العلم قائدا له وفق للهُدَى والحق والعدل.
3 - نصف النصر معرفة الطريق إلى النصر (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). ومعرفة هذا الطريق لا تكفي لوحدها ، بل لا بد من بعد اختيار هذا الطريق المضي فيه  ولا يكون ذلك إلا بالتجرد من حظوظ الدنيا كما في قوله (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وليس في أي سبيل غيره ، والوصول إلى هذه المرتبة العالية في الدين يكون بإصلاح العقيدة الدائم والمثمر بالعمل الصالح المستمر.
 4 - يقين الملأ من بني اسرائيل في أن حقهم لا يسترد إلا بالجهاد وأن تحررهم من الطغاة المعتدين لا يكون بغير القتال في سبيل الله (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
5 - أن من حسن التعليم وتأصيل التربية اختبار المتعلم والتأكد من عمق رسوخ التربية في أعماق نفسه ومدى تأهله وتمكنه من القيام بمهام دينه وتحمل ما يصيبه من مشاق (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا).
6 - إن الكثير تموت عندهم حماسة الرخاء والسعة عند ساعة الجد والشدة ، فكانوا يقولون في وقت السعة (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)  فلما فُرِضَ عليهم ما طالبوا به من القتال ماذا فعلوا؟!
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) فلم يستجب إلا القليل أما الكثير لم تستمر حماستهم بل ذهبت وضعفت قوتهم.
7 - إن التقاعس عن نصر الحق أو التولي عن القيام به ظلمٌ للنفس وظلمٌ للحق والرسول الذي جاء به وبذل في وصوله إلينا التضحيات الكبيرة الجليلة ، وظلمٌ للناس في التهاون لإيصال الحق إليهم وحمايتهم في حال التمسك به (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ   وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وهذا هو الامتحان الأول لهم وهو فرض القتال عليهم ولم يتجاوز هذا الاختبار إلا القليل.
8 – أن أي جهاد في سبيل الله يشترط لنجاحه واستمراره ونفعه أن يعين له قائدا (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ليجمع الكلمة ويوحد الصف (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) [الصف : 4] ويمنع التنازع والفشل (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  وَاصْبِرُوا  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : 46].
9 - في هذا المشهد وغيره من مشاهد القصة ما يدل على فساد الدعوات الموجهة لمجلس الأمن أو غيره من المنظمات المرتبطة بعدونا ومطالبتهم بنصرنا ورد حقوقنا وكأننا لا نرى انتهاكهم لكرامتنا في رابعة النهار.
وبنو اسرائيل – في هذه القصة الذين فتح الله عليهم ونصرهم –  تولوا هم جميع أمورهم وقاموا بشئونهم وحدهم من دون أي تدخل من عدوهم ووضعوا أيديهم في أيدي بعض ولم يمدوها طلبا للعون والمساعدة  إلا لله.
10 – الدفاع عن بلاد المسلمين وحمايتها من الكفر وأهله من الجهاد في سبيل الله ( وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا).
المشهد الثاني: تعيين طالوت ملكا قائدا لهم .
قال الحق سبحانه : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا  قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ  قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : 247].
في هذا المشهد أخبرهم نبيهم أن الله جعل الملك والقائد في الجهاد طالوت وقد اعترضوا على هذا التعيين لأن طالوت في نظرهم لا يستحق هذه المنزلة لأنه ليس من عائلة الملك ولا النبوة وليس من الاغنياء بل هو فقير من الفقراء يعمل سقاء وعائلته بعيدة عن عائلتي النبوة والملك (قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) فهم يرون أنهم أعلى وأولى منه ، ولا يخفى ما في قولهم من كبر واستعلاء على الناس واحتقار لمن دونهم ومن لم يكن من عائلتهم ، ولكن الله رد عليهم هذا الاعتراض المبني على موازينهم الأرضية البشرية بأنه عيين طالوت وفق ميزان رباني دقيق لا يحابي أحدا (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ).
وفي هذا المشهد الاختبار الثاني وهو فتنة الناس وإشغالهم بما يضرهم من جدال في الحق بعد وضوحه واشتغال عن المعركة الكبرى بمعارك هامشية تضر ولا تنفع وتهدم ولا تبني ، وتقديم للمصلحة الخاصة كما في قوله(وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) على المصالح العامة .
وهذه بعض دروس هذا المشهد:
1 – تواضع النبي وتجرده حين قال لهم (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) فنسب الفعل إلى الله وكذا المربي لا ينسب لنفسه الخير والفضل بل ينسبه إلى الله المتفضل به.
2 – خطورة الحظوظ الفردية والمصالح الشخصية على تحقيق المصالح الكبرى أو عرقلة الوصول إليها وإعاقة تنفيذها كما (قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) وأخطر ما في هذا المشهد هو موقف أهل المصالح الشخصية في عرقلة مشروع الجهاد الذي يوصل إلى النصر والتمكين.
3 – إن من أسباب الاختلاف والفشل والهزيمة تقديم القائد بناء على نسبه أو ماله أو وجاهته مع إهمال كفاءته وعلمه وقدرته (قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ)، فالواجب تقديم الأكمل في جميع الصفات ولا يقدم عليه الأقل منه لأن تقديم الأكمل يحقق المصلحة العامة والأقل علما أو أمانة أو قدرة أو عدلا ...الخ . لا يحقق مصلحة بقدر ما يحقق من مفاسد.
4 – أن نصر الله للمسلمين وتمكينه لهم في الأرض ونهوضهم وتقدمهم يتوقف على تقديم الأصلح منهم ووضع الرجل المناسب علما وأمانة وخبرة وبصيرة وصدقا في المكان المناسب (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ). فلا تتحقق المصالح وتزول المفاسد وتدفع المضار إلا بتقديم من قدمه الله.
5 – (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ) يدل على أن الملك لله وقد أمر الله بتقديم الأصلح فيجب تقديم من قدمه الله وتأخير من أخره حتى يقوم بملكه من يُصلح في أرضه ولا يفسد.
6 – أن المال ليس بركن من أركان السؤدد بل الغالب أن صاحب المال يكون جبانا رعديدا وفاقدا للرأي السديد وهذا يدل على فساد اعتراضهم(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ).
7 – أن الله اصطفاه عليهم واختاره لقيادتهم لأن الله أعلم بما ينفعهم والأصلح لهم منهم (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ).
8 – أهمية قوة البدن وقوة العلم في القائد حتى يقوم بعمله بحكمة وقدرة وكفاءة (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وخطر ضعف قوة الجسم وقلة العلم وما ينتج عنها من ضرر وفساد للبلاد والعباد.
9 – أهمية اقناع المعارض بذكر الأدلة المقنعة وبيان البراهين الساطعة القاطعة لشبهته حتى يقتنع بقبول الحق أو يضل على بينة ويتضح ذلك في قوله :
أ – (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ).
ب – (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ).
ج – وزاده بسطة في (َالْجِسْمِ).
د – (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ).
هـ - (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
الخطبة الثانية
المشهد الثالث: مشاهدة التابوت برهان حسي على صحة ملك طالوت
: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [البقرة : 248].
ويظهر في هذا المشهد أنهم لم يقتنعوا بالأدلة السابقة على أن ملك طالوت حق ، فذكر لهم نبيهم أن علامة ملكه (أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) وهو شيء كالصندوق يحملونه معهم في غزوتهم وتطمئن وتسكن به نفوسهم وقد أخذه أعدائهم منهم فجيء به و(فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ) من العلم والحكمة ، وبعد هذه العلامة الحسية الظاهرة لا يسعهم إلا التسليم والإيمان وقبول الحق لمن يريده (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وفي هذا المشهد من الدروس:
1 – أهمية طمأنينة النفس للحق وقبوله حتى تعمل به وتحمله وتتحمل تبعاته بصدق.
2 – أهمية ذكر السلف الذين مضوا في هذا الطريق وإبراز القدوات العاملين الصادقين.
3 – أهمية الربط التربوي بين الواقع والماضي من ذكر سيرة الرسل.
4 – أن الكثير من الناس لا يقبل الحق ولا يسلم له ولو جئته بكل آية (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وإنما المؤمن هو الذي يسلم وينقاد ويعمل.
5 – أهمية ربط الحقائق العلمية المعنوية بالأشياء الحسية الواقعية التي تقرب فهم وتصور هذه الحقائق العلمية المعنوية وتقوي اليقين بها والتسليم لها والصبر على حملها والتضحية في سبيل نشرها ونصرها.
6 – على المربي التركيز على المعاني الجليلة المؤثرة في نفوس المتلقين! فتأمل معاني هذه الكلمات ودلالاتها ومدى تأثيرها عند المخاطبين بها  في هذا المشهد الذي ظهر فيه الاضطراب ! ( سكينة ، آل موسى ، آل هارون ، الملائكة ..الخ ).
7 - دور الملائكة في معركة أهل الإيمان مع أولياء الشيطان(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [ الأنفال : 12].
8 - في هذا المشهد يظهر ضعف إيمان بني اسرائيل الذي احوجهم إلى معجزة التابوت لتقوية إيمانهم ، وعندما نقارن ذلك مع سرعة استجابة الصحابة لله ورسوله وتصديقهم للرسول بدون تردد وقوة ثباتهم وصبرهم (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ  وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) وكذلك هذه حال الصادقين من المجاهدين (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ  فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ  وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب : 22 - 23]. وهذا من أدلة فضل هذه الأمة على بني اسرائيل.

إلى هنا ونلقاكم في الجمعة القادمة بإذن الله لإكمال قصة طالوت.
المشهد الرابع: مرحلة التصفية وتنقية الذهب من الكير
 وبعد الانتقال من مرحلة مطالبة بني اسرائيل بالجهاد ثم فرضه عليهم ثم توليهم إلا القليل منهم إلى مرحلة الاعتراض على الحق والتهرب من القيام به والتحجج بالأعذار التي تدل على الأنانية (قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) ثم إلى مشهد تأييد الحق بمعجزة التابوت المشاهدة القاطعة لكل شك الزائلة لكل لبس إلى هذه المرحلة الفاصلة بين الراسخين في العلم والتربية الإيمانية والصادقين في عقيدتهم وبين المنهزمين المهزوزين الذين يحسبون إنهم على شيء !
 إنه مشهد اختبار النخبة المستجيبة لنداء الحق والسائرة في طريق نصرته وتمحيصها بما يعرض لها في هذا الطريق من عوائق وما يصيبها فيه من الضراء والبأساء.
قال الله عز شأنه وتقدست أسماؤه : ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ  فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ  فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ  قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ  وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : 249].
فلما ابتعد طالوتُ بمن استجاب معه للحق عن مستقرهم ابتلو باختبار ثالث وقال لهم (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ) ومختبرهم بالشرب من النهر البارد العذب وقد بلغ بهم العطش مبلغه (فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ولا يستمر معي في غزو العدو لأن من ضعف لشهوة النفس في الشرب فسيكون أشد ضعفا أمام قوة العدو ومن لم يصبر على ألم العطش لن يصبر لألم القتال والجراح (وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) فهذا شرط حاسم في تمييز كفاءة الجيش في الصبر واختبار عملي في مدى قدرته على تحمل المشاق ، فمن لم يذق النهر في شدة ومنتهى العطش  هو المؤهل في خوض المعركة الفاصلة والحاسمة مع الجبارين ، وقد رخص لمن (اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أن يشرب هذه الغَرفَة ، ولكن من المؤسف والمحزن والمخيف أن الكثير رسب وسقط في هذا الاختبار(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) وقد ذُكِرَ أن عدد الذين وردوا على النهر ثمانين ألفا ولم يتجاوز هذا الابتلاء إلا أربعة ألاف ، وستة وسبعون ألفا قد فشلوا ورجعوا (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وبعد تجاوز النهر بهذا العدد القليل من المؤمنين ابتلوا باختبار رابع وهو مشاهدة جيش العمالقة الجبارين المدجج بأنواع الأسلحة الفتاكة ، فأصاب الخَوَر والهزيمة النفسية بعض المؤمنين و(قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) فانهزم من الذين تجاوزوا  النهر الكثير وكلهم من المؤمنين وهذا أمر خطير ومخيف ولم يثبت ويصمد مع طالوت في وجه الجبارين الطاغين الباغين إلا ثلاثمائة وبضعة عشر من أربعة ألاف وكان عدد الذين مع رسول الله   في غزوة بدر مثل عدد الذين خاضوا معركة الفرقان مع طالوت ضد جالوت وجنوده.
وهنا في هذا الموقف العصيب الشديد الرهيب برز أثر العقيدة الصافية الصادقة الخالصة في الثبات والصبر والمصابرة والمرابطة ودور العقيدة الصالحة الهام في تحول التاريخ في هذا اليوم المشهود وتحطيم الموازين المادية الأرضية أمام الموازين الإيمانية الربانية و(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ  وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فهذه الفئة المؤمنة الصادقة القليلة في عددها والضعيفة في عدتها ولكنها الموقنة بلقاء الله وقدرته والواثقة في نصره والمعتمدة على تأييده وحده دون سواه هزمت الفئة الكثيرة في العدد والقوية في العُدَد والتي تمتلك كل القدرات المادية الممكنة.
ومن الدروس المستفادة من هذا المشهد:
1 – من حكمة القائد وحسن قيادته اختبار قدرات جنوده المعنوية ومدى قوة تربيتهم الإيمانية.
2 -  يجب على القائد منع من لا يصلح للحرب سواء كان مرجفا أو مخذلا أو غيرهما . والمرجف: هو من  يخوف المسلمين من قوة عدوهم أو عدده أو استعداده. والمخذل : من يقول لن تنتصروا ، أو رأيت في المنام هزيمتكم .
3 – على القائد أن يختبر قدرات جنوده بما يراه مناسبا مع المحافظة على كرامتهم والبعد عن خدش عزتهم لأن الكرامة إذا كسرت اتصفوا بالمهانة والتعود عليها والعزة إذا خدشت نزفت حتى يغرق الجندي في الذلة ولن يثبت في المعركة إلا كريم عزيز وأما من تعود على المهانة وأشرب في قلبه الذلة فسيشتري الحياة بثمن بخس ويكون في وقت الشدة من الذين يولون الدبر لأنه اعتاد المهانة والذلة وتربى عليها فهان عليه التولي والهزيمة.
3 - من لم يجاهد نفسه وينتصر على شهواته ورغباته لا يمكن أن ينتصر على عدوه.
4 – أن جنود طالوت اختبروا بنهر الماء المباح في شدة العطش وحاجتهم للشرب فسقط في الاختبار ستة وسبعون ألفا !! فكيف تنتصر أمة ترسب يوميا في اختبار الفرائض والواجبات وترك المحرمات وهي لا تتضرر بفعل ما أمرت به بل تنتفع ولا تتضرر بترك ما نهيت عنه بل تسلم وتغنم!
إن حالنا في غاية الخطورة !
5 – أن الطائع لله قليل والعاصي والمخالف لشرع الله كثير(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ). والكثرة مذمومة في كثير من الآيات.
فالقلة القليلة هي الناجية المفلحة المنتصرة وأن الكثير خاسر فعلى المؤمن أن لا يغتر بكثرة الهالكين ولا يهوله كثرة المعارضين للحق والمخالفين له .
لا تخشَ كثرتهم فهم همج الورى *** وذبابه ، أتخاف من ذبان؟!
6 - إن ثبات هذه الفئة القليلة الضعيفة ماديا أمام الفئة الكثيرة القوية ماديا آية عظيمة على وجود الله وقدرته القاهرة وحكمته العظيمة الباهرة وأن هؤلاء الضعفاء القلة لولا أن الله القوي القدير على كل شيء  ليس معهم لما صبروا وثبتوا صامدين حتى انتصروا.
7 – إن البقاء والنصر لقوة العقيدة الربانية وعلى قدر رسوخها في نفوس أصحابها واستقرارها في قلوبهم ولا بقاء ولا نصر للقوة المادية مهما انتفشت وانتشرت .
8 - دور الصادقون المخلصون الكبير والنافع في إصلاح الأمة الإسلامية وثباتها على دينها وصمودها في وجه عدوها (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) فإذا تخلى هؤلاء الربانيون عن مكانهم الصحيح وتنازلوا عن منزلتهم اللائقة وتركوا الفرصة للمتاجرين بقضايا الأمة الكبرى وأمورها المصيرية ووجد الرويبضة الفرصة للقفز على منابر التوجيه وتسلق قمم القيادة  أصاب الأمة الهوان والخزي والتفرق والتشرذم وألفت حياة الذلة واهتمت بتوافه الأمور وسافل الخصال وافتخرت بالقعود في القيعان  وحاربت الصعود إلى قمم المعالي.
9 - أهمية الصبر ووجوب اتصاف المؤمن به وأن الله قد فرض الصبر علينا لأنه يعيننا على أمورالدين والدنيا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة : 153] ، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [البقرة : 146] ، (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : 249] ، وجعل الله العاقبة الحسنة لأهله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : 155].

 المشهد الخامس: تقابل الفريقان والتقاء الجمعان في يوم الفرقان
: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة : 250].
ونستفيد من هذا المشهد:
1 - التجرد من كل حول وقوة والتضرع إلى الله هو السبب الفاعل لنصر الله.
2 - إنهم لم يدعوا وهم في بيوتهم أو أعمال الدنيا وإنما دعوا الله وتضرعوا بعدما بذلوا ما في وسعهم وعملوا ما يقدروا على عمله وخرجوا إلى عدوهم كما فعل الرسول صلى الله عليهم وسلم في غزوة بدر.
3 – أهمية هذه المطالب الثلاثة التي تقدموا بطلبها من ربهم ومولاهم (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) (وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
المشهد السادس: نصر الله أهل الإيمان أولياء الرحمن على أهل الطغيان أولياء الشيطان
: ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ  وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة : 251].
1 – هزموا الطاغي الباغي جالوت وجنوده بقوة الله (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ) فالله هو الذي أذِنَ بانتصار أوليائه وهزيمة أعدائه (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ) فهزيمة جالوت وجنوده انتصار لطالوت وجنوده ، وقد بَيَّن الله أن هزيمة الطغاة بسبب أهل الإيمان ، ونلاحظ هنا أن الله نَسَب انتصار أولياء الرحمن وهزيمة أولياء الشيطان إلى الجماعة المؤمنة ولم ينسبه لطالوت لأنهم أنصاره وأعوانه الذين كان لهم الدور البارز والأثر الفاعل في تحقيق النصر وقد أخبرنا الله عن موقفهم حين تزلزل الناس  (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) وأخبرنا الله عن تضرعهم  ودعائهم ولجوءهم إلى ربهم (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا .....) وفي كل هذين الموقفين نسب الله الفعل والعمل للجماعة المؤمنة جميعا ، وهذا نستفيد منه أمور مهمة منها :
أ – أهمية دورهم – جميعا - في الثبات والتثبيت .
ب – أهمية تضرعهم في الدعاء واجتهادهم فيما يقرب إلى الله  واللجوء إليه بما يحب ويكون ذلك منهم جميعا.
ج – أهمية الأخذ بالأسباب المادية ولكن الاتكال والاعتماد على الله وحده لا على الأسباب المادية ويتضح ذلك من قوله (بِإِذْنِ اللَّهِ) وقوله (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ).
2 – وهنا درس كبير من دروس هذا المشهد وحقيقة من حقائق التوحيد واليقين والتوكل على الله وهي إن النصر من الله وحده ومن خصائصه التي تفرد بها ولم يشاركه فيها أحد(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 10].
فعلى المؤمنين بذل ما في وسعه والأخذ بكل الأسباب المادية والشرعية الممكنة وليعلموا أن النصر بيد الله ، ولكنه قريب بقدر قربهم من طاعته وبقدر بعدهم عن معصيته (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة :214].
3 -  اظهر الله للناس حقارة وضعف الطاغية جالوت لأنه قتله رجل واحد من جنود طالوت الذين يحتقرهم جالوت ولا يراهم في عينه شيئا (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)! وقيل : أن داود أصغر القوم سنا .
4 -  فضل داود وشجاعته وموقفه البطولي الذي نقطة تحول في تاريخ ذلك الزمن.
5 - تواضع طالوت ورجاحة علمه وعقله وفضله حين اعترافه بفضل داود وأشركه معه في الملك وكان بإمكان طالوت أن يقصي داود حين ظهر أنه منافسا له قويا وجديرا بالملك، ثم صار الملك إلى داود ثم ابنه سليمان وصار عصرا ذهبيا لبني اسرائيل.

قال الله في ختام هذه القصة النافعة ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ  وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [البقرة : 250].
ختم الله القصة بهذه الآيات التي بين فيها أن هذه القصة وما ذكر فيها من آيات الدالة على كمال ربوبيته ، وآيات قدرته وحكمته وآيات نصره للمؤمنين ، وآيات صدق رسوله وكمال رسالته وتصديقها لما قبلها وبين يديها من الكتب، (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لأنك أخبرت بقصص الأولين كما وقعت وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب فدل ذلك على أن ما جئت به هو وحي أوحاه الله إليك.
الخطبة الثانية
ونختم هذه النبذة الموجزة في ذكر هذه القصة بذكر بعض الدروس العامة من قصة طالوت :
 1 - تقرير الحكمة الربانية من الجهاد وأنه لم يشرع للسلب والمغنم كما يزعم أولياء الشيطان ولم يكتبه الله على عباده المؤمنين للزهو والاستعلاء وبناء مجد أمة على ذل أمة أخرى ولكن شرع الله الجهاد لإصلاح أهل الأرض وحفظ الضروريات التي لا تصلح الأرض ودين الناس وحياتهم إلا بها (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)[الأنفال : 39] فالهدف من الجهاد إخضاع الناس لسلطان ربهم الذي خلقهم ورزقهم وهو أرحم بهم من أنفسهم وتحريرهم من عبودية شياطين الإنس وحكمهم بشريعة السماء بدلا من شرائع الأهواء التي جعلتهم أذلة أهون وأحقر من الجعلان.
2 – أهمية التربية الجهادية وشحذ الهمم لدفع العدو الغازي ، وقد كان لمثل هذه القصة من قصص الجهاد والتضحية في سبيل الله أكبر الأثر في حياة الصحابة وثباتهم أمام الأعداء من الوثنيين واليهود والروم والفرس وصبرهم على حفظ الدين ونشره ، فانظر إلى أثر القرآن على أصحابه!
3 – أن الذل الذي أصاب بني اسرائيل في هذه الفترة من التاريخ بسبب فسقهم وما شاع بينهم من تبرج نسائهم وانتشار الزنا وأكل الربا وظلم الناس وتعطيل العمل بكتاب الله والأعراض عن هدي رسوله فسلط الله عليهم عدوهم يسومهم سوء العذاب فأصبحوا مهجرين ولاجئين كحال الكثير من المسلمين اليوم.
4 – خطر أصحاب المصالح الشخصية على الإصلاح العام  في الأمة وتحقيق مصالحها العامة لأن هؤلاء النفعيين عائق كبير وخطير للإصلاح وهم لا يقدمون للمناصب إلا من يحقق مصالحهم ولو كان من اسوأ الناس وأفسدهم ، ودورهم الكبير في التخذيل والإرجاف وإثارة البلبلة بين الأمة وتفريق الصف ، وذلك كله بسبب جهلهم وضعف إيمانهم وسطحية فهمهم وتقديمهم لأهوائهم على هدى الله.
5 – أهمية معرفة سنة الله في دفع الطغاة الغزاة المحتلين عن بلاد المسلمين وإزالتهم عنها لا يكون إلا بجهادهم حتى القضاء عليهم ونصر المسلمين عليهم والصمود أمام طغيان هذا العدو والصبر على جهاده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد : 7].
6 –  قال الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ  إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [ البقرة : 243] المقارنة بين الفئة القليلة في قصة طالوت وبين الألوف الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت وطلبا للحياة (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) كما في الآية التي قبل آيات هذه القصة ، فوقعوا فيما فروا منه وأتاهم الموت من من حيث يظنون ويطلبوا السلامة !!
 وأما هؤلاء المؤمنين الصادقين الصابرين الموقنين بنصر الله ، ففروا من الحياة طلبا للموت في سبيل الله وتقدموا إلى الموت المحقق فحفظ الله حياتهم ووهب لهم حياة أكرم وأفضل وهي حياة النصر والعز والتمكين لدينهم في الأرض، فزادهم الله هذه الحياة بنصره المؤزر العظيم ليكون ذلك آية من آيات الخالق العظيم  الكبرى الدالة على عظمة ربوبيته وبرهان ساطع قاطع على قوة سلطانه وشمول ملكه وإحاطة بكل شيء.
7 – إن هذه القصة مر أصحابها بابتلاءات متعددة من أول القصة إلى نهايتها ، ابتلاهم الله بفرض القتال عليهم ثم بمعارضة مُلك طالت وما أثاره بعضهم من شبهات ثم ابتلاهم بالنهر ثم ابتلاهم بالرهبة من جالوت وجنوده ، وكل ذلك في فترة زمنية وجيزة ، فدل ذلك على أن المؤمن سيبتلى في جميع أموره وحياته (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً  وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء :35] ، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت : 2].
فلا نصر ولا تمكين إلا بعد جهاد وتضحية وصبر وثبات وصمود وصدق.
8 - إن بني اسرائيل في هذه القصة هم من كان على الرسالة الربانية التي جاء بها موسى ويعملون بكتاب التوراة الذي أنزله الله عليه ، وكذلك بني اسرائيل الذين امتن الله عليهم بنعمته وفضلهم على العالمين (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [ البقرة : 122] ، فهم من كان على الدين الصحيح دين الإسلام ومتبعون للملة الحنيفة ملة إبراهيم وذريته من المرسلين.
وأما من تولى عن دين الله والعمل بكتابه وخالف رسله فهم الكفرة الفجرة الذين قال الله فيهم (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) [ المائدة : 60] ، ومن هؤلاء الكفرة الفجرة اليهود المحتلون لبيت المقدس وأرض فلسطين !
فهؤلاء – يهود اليوم -  لا علاقة لهم بإسرائيل – يعقوب عليه السلام -  لا من جهة  الدين ولا  من جهة النسب ! وإنما هم خليط  اجتمعوا في فلسطين من انحاء العالم من المرتزقة وأصحاب المصالح والحاقدين على الإسلام والمتعصبين لديانة اليهود الباطلة والعنصرين لقوميتهم .

الخميس، 8 مارس 2012

بشائر أهل الإيمان بانتصارهم على الطغيان


بشائر انتصار أهل الإيمان على الطغيان

حسن الظن بالله مع العمل الصالح والنافع يفتح باب الأمل ويشجع على الجهاد وبذل الجهد والاجتهاد في زمن كثر فيه الأعداء الطغاة البغاة على المسلمين وانتشر فيه من الفتن ما تدع الحليم حيران.

وهذا المنهج الرشيد السديد  حسن الظن بالله مع عمل ما أمر الله به من أمور الدين والدنيا على حسب قدرة الإنسان وما في وسعه وحدود طاقته واقتناص كل فرصة ذهبية سانحة واستثمار كل حدث بحكمة وعدل وعقل وتسخير القدرات المالية والبشرية في حفظ دين المسلمين ودمائهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم وبلادهم ، هو سبب عودة المسلمين إلى مجدهم وتسلمهم قيادة  البشرية إلى الخير.

وهذا قبس من نور الوحي في وقت اشتداد ظلمات الطغيان البهيم لتنير لنا طريق الأمل والنصر ، ومساهمة في تثبيت المؤمنين وخاصة أهل الشام الذي يعيشون في ليالي الطغيان السود الحوالك والذي قد بزغ نور فجرها في أفق العز والشرف والكرامة ويوشك أن تشرق شمس النصر فتحرق خفافيش ظلام الأجرام والعدوان ،  وسأذكر هذه القبسات  على شكل مبشرات معتمدا على نصوص الوحي .

البشارة الأولى : أن النصر يأتي في شدة انتفاش البغي والظلم وتسرب اليأس إلى قلوب الرسل فضلا عن  المؤمنين.

قال الله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة :214].

فقوله (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ) يدل على شدة ما أصابهم وزلزلهم من الضراء والبأساء ، وقوله (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) بشارة من الله بالنصر في شدة الكرب ، ووعد من الله لا يخلفه وسيحققه لأوليائه على  أعدائه.

وقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الرعد : 110].

فالنصر يأتي عندما يتسرب اليأس إلى نفوس أفضل المؤمنين يقينا وهم الرسل، وينزل الله بأسه الشديد بالمجرمين جزاء بما كانوا يعملون.

البشارة الثانية: وعد الله القوي  العزيز إنه غالب سيغلب هو وعباده المؤمنين أعدائه وتكون عاقبة الأعداء خزيا وذلا ، وهذا عدل من الله مع أعدائه وفضل من الله على أوليائه وإحسان لهم.

قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ  فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الانفال : 36].

يقول السعدي : قال تعالى مبينا عداوة المجرمين وكيدهم ومكرهم، ومبارزتهم للّه ولرسوله، وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وأن وبال مكرهم سيعود عليهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ليبطلوا الحق وينصروا الباطل، ويبطل توحيد الرحمن، ويقوم دين عبادة الأوثان‏.‏ ‏{‏َسَيُنْفِقُونَهَا‏}‏ أي‏:‏ فسيصدرون هذه النفقة، وتخف عليهم لتمسكهم بالباطل، وشدة بغضهم للحق، ولكنها ستكون عليهم حسرة، أي‏:‏ ندامة وخزيا وذلا ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا، ويعذبون في الآخرة أشد العذاب‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء.

(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [ال عمران : 12].

وكتب الله العز والعزة لرسله والمؤمنين والذل والذلة والصغار على أعدائه : (كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 20].

وسيحقق الله وعد للمؤمنين بنصرهم ووعده  بإحباط كيد الكافرين ومكرهم بالإسلام وأهله.





البشارة الثالثة: نصر المؤمنين حق على الله أكده وكرر تأكيده لتقوية يقينهم بهذا الحق الذي تفضل به وفتح باب التفاؤل لهم ليستمروا في جهادهم وصبرهم وثباتهم على ذلك .

قال الله سبحانه : (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا  وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم :47].



البشارة الرابعة : إن طغيان االظالمين وكثرة فساد الطغاة علامة لزوالهم وهلاكهم




البشارة الخامسة: إن الله يجعل الخلفاء في الأرض والغالبين فيها والمالكين لها هم المؤمنون العاملون للصالحات.

قال الله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور :55].

وهذا الوعد الإلهي للمؤمنين وعد دائم ومستمر، وما تحقق في عهد الخلفاء الراشدين والفتوحات الإسلامية، يمكن أن يتحقق لمن بعدهم إذا توفرت الشروط.

البشارة السادسة : أن الله يعاقب الماكر بسوء عمله .


وقال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به جزاؤه : من مكر أو بغى أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله تعالى: ( وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ ) ( إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ)[يونس: 23]
(فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ)[الفتح: 10].

وهؤلاء الطغاة البغاة قد أجتمع فيهم وجمعوا من المكر اسوأه ومن النكث أغدره ومن البغي ابشعه.

الخطبة الثانية

البشارة الثامنة : إن نصركم أيها المؤمنون من عند وعند الله أرحم الراحمين والذي فضله ونصره وتوفيقه أقرب إليكم من حبل الوريد وكلما ازددتم له قربا بطاعته وتقربتم إليه بتحقيق عبوديته أزدد النصر والفلاح والفوز قربا إليكم.

قال الله :  (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 10].

قال أبو جعفر محمد بن جرير " وما النصر إلا من عند الله "، يقول: وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون  إلا أن ينصركم الله عليهم, لا بشدة بأسكم وقواكم, بل بنصر الله لكم, لأن ذلك بيده وإليه, ينصر من يشاء من خلقه  " إن الله عزيز حكيم " يقول: إن الله الذي ينصركم، وبيده نصرُ من يشاء من خلقه  " عزيز " لا يقهره شيء, ولا يغلبه غالب, بل يقهر كل شيء ويغلبه, لأنه خَلَقَه ، حكيم في تدبيره ونصره من نصر, وخذلانه من خَذَلَ من خلقه, لا يدخل تدبيره وهنٌ ولا خَلل. أهـ.

إن النصر من عند الله ، وهذا التحول في واقع الشعوب  إلى الله والمطالبة بتحكيم شرعه دليل على إنهم ايقنوا إن النصر لا يأتي إلا من عند الله ، وخاصة عندما يكون المؤمنون أحوج ما يكونون إليه، وعندما يتبرأ الناس من حولهم وقوتهم ويلوذون بحول الله وقوته، وعندما تغلق الأبواب في وجوههم، وتنقطع الأسباب دونهم فعند ذلك ينزل النصر. وهذه قضية عقائدية تكررت مرات عديدة في القرآن وفي تاريخ المسلمين.


ولا يتمالك المسلم دموعه عندما تلج الساحات بقولهم " مالنا غيرك يا الله " (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ  وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ  وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران : 160 ]. (أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [ الملك : 20 ].



البشارة التاسعة : سيعود حكم الإسلام إلى الشام كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فعن ابْنُ حَوَالَةَ عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ، فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ ، مِنْ يَدَيَّ هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ " رواه أحمد أبو داود والحاكم. .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَر، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّه، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ". رواه الشيخان..

وهذا دليل صحيح صريح أن القوة ستكون للمسلمين ، وأن هذه القوة سيسبقها عودة إلى الإسلام مصدر قوة المسلمين وعزتهم ، وتمسكهم بدينهم سبب ظهورهم ونصرهم وتمكين الله لهم واستخلافهم في الأرض من بعد عدوهم.

والحديث الذي ذكره أبو يعلى وذكره الهيثمي ورجاله الثقات من حديث أبى الدرداء أن النبي قال ( لاتزال عصابة من أمتى يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله وعلى أبواب المقدس وما حوله ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة).



البشارة العاشرة : ما جاء في الصحيح من كتب السنة من أحاديث كثيرة في فضل 'بلاد الشام' نذكر منها :

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالشام". الترمذي.

 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قد تكفل لي بالشام وأهله".أحمد.

 ووصى النبي صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام فقال: "عليك بالشام فإنها خيرة الله في أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده" رواه أبو داود..

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -  : [والنبي صلى الله عليه وسلم ميَّز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير أهل الشام من أرض الإسلام ، فإن الحجاز التي هي أصل الإيمان نقص في آخر الزمان منها: العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق، وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان ومن يقاتل عليه منصوراً مؤيداً في كل وقت].



هذه بعض بشائر النصر ذكرتها في هذه العجالة ، ومن المهم أن نذكر في هذا المقام بواجبنا الشرعي وحق إخواننا علينا في نصرتهم بكل ما نستطيع (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [ الأنفال : 72]. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  : " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ   الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" مسلم.

ولنعلم أن من ساهم في أسباب النصر قبل تحقيقه أجره عند الله عظيم وفضله كبير (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ  أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا  وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [ الحديد : 10].

ولنعلم إن خطر وضرر ذنوبنا أشد علينا من عدونا ولا ينصرنا الله إلا بطاعتنا له وعصيان عدونا له فإذا شاركتنا عدونا في معصته لله سلطه الله علينا بسبب ذنوبنا (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا  قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ  إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ال عمران : 165].